د.جوخة الحارثي،، صحيفة القدس العربي 1/6/2016
«عادة ما يخطئ المرء في طريقه عندما لا يفهم لغة البلد». الأميرة سالمة
هل تغير دينك من أجل الحب؟
وكيف سيتحول داخلك حينها إلى الدين الجديد كما تحول ظاهرك؛ هل سيتطابق مظهرك مع مخبرك؟ الأميرة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان، ابنة سلطان عُمان وزنجبار، التي أحبت جارها الألماني في زنجبار وهربت معه إلى بلاده، وغيرت دينها لتتزوج به، تجيب عن هذا السؤال المرير بشجاعة وألم.
تكتب الأميرة لصديقتها المفترضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: «إنني ظاهرا مسيحية، فقد كنت في داخلي مسلمة أيضا. وبدا لي مزريا جدا أن أفعل شيئا مخالفا عما أنا عليه في الحقيقة». كما تصف بصراحة مشهد دخولها الكنيسة باعتبارها مسيحية لأول مرة، حيث أصابها ضيق الصدر، واستنكرت وجود الصور في الكنيسة، إذ رأتها تتعارض مع الخشوع، واعتبرت أن تسول المال أثناء الصلاة تدنيس وانتهاك. وإلى جانب الأزمة الدينية التي عانت منها الأميرة، عانت من أزمة اللغة، إذ ظلت لوقت طويل لا تستطيع التحدث إلا مع زوجها الذي كان يجيد السواحيلية، وسبَّب لها هذا شعورا بالعجز وآلاما مضاعفة للغربة.
لقد عرف القارئ العربي الأميرة سالمة في الجزء الأول من مذكراتها، الذي صدر بالألمانية عام 1886، ومن ثم بلغات عديدة منها العربية، ولكن ذلك الكتاب كان مكرسا للحديث عن طفولتها وصباها في زنجبار العمانية آنذاك، وعن الحياة في قصور السلطان، ورأينا فيه الدفاع المجيد عن حياة الشرق، أما الجانب الآخر من حياتها، أي الستين عاما التي عاشت أكثرها في الغرب، فبقي مجهولا حتى مطلع هذا العام، حين نشر الباحث العُماني زاهر الهنائي ترجمته عن الألمانية للجزء الثاني من المذكرات بعنوان «رسائل إلى الوطن» عن منشورات الجمل. لقد ظلت الرسائل مجهولة إلى أن قام الباحث الهولندي E.van Donzel بنشرها سنة 1993 مترجمة إلى اللغة الإنكليزية، ولم تظهر بلغتها الأصلية حتى عام 1999 عندما نشرها السفير الألماني الأسبق في تنزانيا هاينس شنيبن. تتضمن الرسائل مذكرات سالمة وتفاصيل حياتها في ألمانيا، من بداية انطلاق رحلتها من عدن عبر البحر الأحمر باتجاه هامبورغ في ألمانيا عام 1867 وحتى انتقالها للعيش في برلين منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر.
نرى المشاهد في الكتاب بعين الكاتبة، العين المصدومة، عين الأمــــيرة الشرقيــــة المرفَّهـــة وهي تصطدم بالسحنات الغربية المتشابهة والسلوكيات العجيبة والثلج والغرف الضيقة المنخفضة والأثاث غير المريح والأبواب والنوافذ المغلقة والطعام السيئ، فتواجه نفسها بالسؤال العصيب: هل أريد أن أقضي حياتي كلها هنا؟
لعله السؤال الذي يواجهه كل مهاجر أو لاجئ، ولكن في حالتها كان له خصوصية وأي خصوصية، فالقفزة الهائلة من حياة الأميرات في بلاد الشمس إلى حياة ربة بيت ألمانية، تركت دينها ولغتها وأهلها وقصورها وعبيدها وراء ظهرها، قفزة زلزلت كيان الصبية التي بالكاد قد وصلت لأوائل العشرين، حين دفعها العشق لهذه الطريق التي لم تتصور أهوالها.
إنها تراقب نفسها، تراقب تحول شخصيتها من الصبية القوية الأكثر جرأة بين قريناتها إلى امرأة مذعورة من الوسط الجديد والملل وعجز اللغة، «كل مرة يغادر زوجي المنزل ذاهبا إلى عمله تصيبني قشعريرة، إذ يعتريني خوف رهيب لا يوصف من التفكير في أن عليّ أن أعيش في هذا الوسط الجديد تماما». تراقب سالمة نفسها وهي تنطوي على ذاتها، تتهرب من الحفلات الطويلة وأحاديث المائدة الصاخبة، ونظرات الفضوليين، وتبكي لمشهد رمانة في يد زوجها تذكرها بفاكهة بلدها. إن الشخصية الفذة التي طالعتنا وأبهرتنا في الجزء الأول من المذكرات، شخصية الفتاة التي تتعلم الكتابة خلسة، وتشاكس الجميع، وتشارك في مؤامرات السياسة وهي دون العشرين، تتحول في هذا الجزء من المذكرات إلى شخصية مختلفة تماما، تكاد أن تكون محطمة تحت وطأة الغربة الروحية واللغوية والثقافية، في السنوات الثلاث الأولى، ثم بكارثة وفاة زوجها وتدهور أحوالها المادية في السنوات اللاحقة. أقول تكاد، ولكنها لم تتحطم قط، فروح الأميرة القوية وعزيمتها الفذة وصفاؤها الفطري يأبى إلا أن يطل بقوة بين ركام الخوف والعوز والوحدة المريرة والعزلة اللغوية.
لقد اختارت الأميرة سالمة بشجاعة فائقة أن تبقى في ألمانيا بعد وفاة زوجها لينشأ أبناؤه في بلاده وعلى تقاليدها، على الرغم من أنها فقدت كل نصير وكل أمل هناك، وكانت العودة إلى زنجبار هي أملها الوحيد في الحياة، بل قاومت فكرة الانتقال حتى إلى إنكلترا من أجل التمسك بهذه المثالية العالية.
وقد انتهى بالأميرة المطاف إلى أن تبيع مجوهراتها لإطعام أطفالها الخبز الأسود! كم عبَّرت عن ذلك بألم وأنفة: «الحرص المخيف على القرش الحقير، ليتكفف به الإنسان، كان شيئا مهينا ومذلا لي». ونرى آثار هذه العزيمة في تعلمها الكتابة بعد وفاة زوجها، ثم في مواظبتها على دروس في العلوم والفلك، وإصرارها على رعاية أطفالها بنفسها رغم نوبات المرض والإنهاك العصبي التي عانت منها لســـنوات بعــــد وفاة زوجها، تلك الحادثة الأليمة التي تحتل فصولا عدة مؤثرة للغاية من الكتاب، إذ تصف الأميرة سالمة تفاصيل فقدها لزوجها بحادث سقوطه تحت عربة القطار، بعد ما لا يزيد عن ثلاث سنوات على زواجهما، وفي هذه الفترة العصيبة أدركت معنى أنها فقدت الأهل والوطن والثروة في غضارة شبابها، وبموت زوجها فقدت كل سبب يبقيها في ألمانيا، كما فقدت الرغبة في الحياة كلها، ولكن كان عليها المقاومة من أجل أطفالها الثلاثة، والانتقال من مدينة ألمانية إلى أخرى وشبح الفقر يطاردها.
يقدم الكتاب أرضا خصبة لدراسة الثنائيات بين الشرق والغرب، وفيه تناقش الأمـــيرة سالمة قضايا عديدة منها «التناقض الأوروبي» في قضية تحرير العبيد، ومصير الأموال التي تُنفــــق في سبيل ذلك، من قبل أناس» لا يعلمون عن الزنوج في أفريقيا واحتياجاتهم إلا كما نعلم أنا وأنت عن الكواكب الأخرى». وتلتفت في هذا السياق إلى الفارق الشاسع بين الأغنياء والفقراء في الشمال، واستعباد الخدمة العسكرية، و«شيطانية» أن يحارب المسيحيون في أوروبا بعضهم بعضا.
إنها توضح بدقة وحكمة سبب ضعف تأقلمها مع الغرب: «إن المرء هنا في أوروبا يولد ويربى لكي يخضع ويستسلم لآلاف القيود التي تمس الحرية الشخصية وتجعل من الفرد مجرد رقم. لا يتناسب معنا، نحن الشعوب التي تعيش بالفطرة، هذا التقييد، فالقلب لدينا يأتي أولا ثم تأتي بعده القوانين الباردة». إن الأميرة الممزقة بين عالمين ودينين وثقافتين تجد ببساطة إن عدم حمد الله على المائدة شيء غريب جدا، فقد كانت تعتقد أن جميع البشر بغض النظر عن كونهم متدينين أم غير متدينين، فقراء أو أغنياء، أشرافا أو وضيعين، يدينون بالشكر لله وحده على رعايتهم وإيجادهم. إنها كما عبرت عن نفسها بصدق وأسى: «كنت أعيش في الحقيقة حياتين، روحية محوطة بسماء زرقاء أبدية، تنتعش فيها صوركم الحبيبة (أحبابها في الشرق) ، ولكن الحياة الأخرى هي مثلما قدرت لي في الحقيقة هنا».
إن سالمة – في وحدتها وغربتها- أميرة حقيقية، فهي لا تحمل همَّها الشخصي وحسب، بل هم الصورة عن شعبها كله، وفي إعدادها لأول حفل في بيتها كان ما يشغلها هو أنها لو أخفقت لن تُنتقد لشخصها فقط وإنما لسذاجة الجنس الذي تنتمي إليه، الجنس الشرقي. إن القارئ لا يملك إلا الإعجاب بروح النزاهة العالية، والمثالية الرفيعة التي تحلَّت بها الأميرة وحافظت عليها في أحلك الظروف، وإن كان تواضعها بيِّنا وهي تحكي عن دهشتها من المسرح، فإن آراءها القوية تجاهه تكشف عن نفس معتدة وواثقة.
كما تكشف الأميرة عن إنسانة رحيمة ترى أن تركها أطفالها من أجل رحلة للتنزه هو تصرف عديم الشفقة. وقد ظلت كل أفكارها ومشاعرها منصرفة إلى زنجبار حتى بعد ولادة طفلتها الثالثة «كنت حقا لا أرى أحدا في المنام سواكم ليلة إثر ليلة».
ولا بد في الختام من الإشارة إلى العربية الرائقة التي ترجم بها زاهر الهنائي الكتاب، وإلى مقدمته المهمة للترجمة، وملحق الصور والوثائق، وبانتظار ظهور المزيد من كتاباتها ومقالاتها بالعربية ستظل الأميرة العمانية الزنجبارية رمزا لامرأة عربية قوية اختارت الحب. وقد صدقت إذ قالت:
«العالم الذي لا مشاعر له ليس لديه تفهم صحيح لما نشعر به ونحسه في أعماقنا».
«عادة ما يخطئ المرء في طريقه عندما لا يفهم لغة البلد». الأميرة سالمة
هل تغير دينك من أجل الحب؟
وكيف سيتحول داخلك حينها إلى الدين الجديد كما تحول ظاهرك؛ هل سيتطابق مظهرك مع مخبرك؟ الأميرة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان، ابنة سلطان عُمان وزنجبار، التي أحبت جارها الألماني في زنجبار وهربت معه إلى بلاده، وغيرت دينها لتتزوج به، تجيب عن هذا السؤال المرير بشجاعة وألم.
تكتب الأميرة لصديقتها المفترضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: «إنني ظاهرا مسيحية، فقد كنت في داخلي مسلمة أيضا. وبدا لي مزريا جدا أن أفعل شيئا مخالفا عما أنا عليه في الحقيقة». كما تصف بصراحة مشهد دخولها الكنيسة باعتبارها مسيحية لأول مرة، حيث أصابها ضيق الصدر، واستنكرت وجود الصور في الكنيسة، إذ رأتها تتعارض مع الخشوع، واعتبرت أن تسول المال أثناء الصلاة تدنيس وانتهاك. وإلى جانب الأزمة الدينية التي عانت منها الأميرة، عانت من أزمة اللغة، إذ ظلت لوقت طويل لا تستطيع التحدث إلا مع زوجها الذي كان يجيد السواحيلية، وسبَّب لها هذا شعورا بالعجز وآلاما مضاعفة للغربة.
لقد عرف القارئ العربي الأميرة سالمة في الجزء الأول من مذكراتها، الذي صدر بالألمانية عام 1886، ومن ثم بلغات عديدة منها العربية، ولكن ذلك الكتاب كان مكرسا للحديث عن طفولتها وصباها في زنجبار العمانية آنذاك، وعن الحياة في قصور السلطان، ورأينا فيه الدفاع المجيد عن حياة الشرق، أما الجانب الآخر من حياتها، أي الستين عاما التي عاشت أكثرها في الغرب، فبقي مجهولا حتى مطلع هذا العام، حين نشر الباحث العُماني زاهر الهنائي ترجمته عن الألمانية للجزء الثاني من المذكرات بعنوان «رسائل إلى الوطن» عن منشورات الجمل. لقد ظلت الرسائل مجهولة إلى أن قام الباحث الهولندي E.van Donzel بنشرها سنة 1993 مترجمة إلى اللغة الإنكليزية، ولم تظهر بلغتها الأصلية حتى عام 1999 عندما نشرها السفير الألماني الأسبق في تنزانيا هاينس شنيبن. تتضمن الرسائل مذكرات سالمة وتفاصيل حياتها في ألمانيا، من بداية انطلاق رحلتها من عدن عبر البحر الأحمر باتجاه هامبورغ في ألمانيا عام 1867 وحتى انتقالها للعيش في برلين منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر.
نرى المشاهد في الكتاب بعين الكاتبة، العين المصدومة، عين الأمــــيرة الشرقيــــة المرفَّهـــة وهي تصطدم بالسحنات الغربية المتشابهة والسلوكيات العجيبة والثلج والغرف الضيقة المنخفضة والأثاث غير المريح والأبواب والنوافذ المغلقة والطعام السيئ، فتواجه نفسها بالسؤال العصيب: هل أريد أن أقضي حياتي كلها هنا؟
لعله السؤال الذي يواجهه كل مهاجر أو لاجئ، ولكن في حالتها كان له خصوصية وأي خصوصية، فالقفزة الهائلة من حياة الأميرات في بلاد الشمس إلى حياة ربة بيت ألمانية، تركت دينها ولغتها وأهلها وقصورها وعبيدها وراء ظهرها، قفزة زلزلت كيان الصبية التي بالكاد قد وصلت لأوائل العشرين، حين دفعها العشق لهذه الطريق التي لم تتصور أهوالها.
إنها تراقب نفسها، تراقب تحول شخصيتها من الصبية القوية الأكثر جرأة بين قريناتها إلى امرأة مذعورة من الوسط الجديد والملل وعجز اللغة، «كل مرة يغادر زوجي المنزل ذاهبا إلى عمله تصيبني قشعريرة، إذ يعتريني خوف رهيب لا يوصف من التفكير في أن عليّ أن أعيش في هذا الوسط الجديد تماما». تراقب سالمة نفسها وهي تنطوي على ذاتها، تتهرب من الحفلات الطويلة وأحاديث المائدة الصاخبة، ونظرات الفضوليين، وتبكي لمشهد رمانة في يد زوجها تذكرها بفاكهة بلدها. إن الشخصية الفذة التي طالعتنا وأبهرتنا في الجزء الأول من المذكرات، شخصية الفتاة التي تتعلم الكتابة خلسة، وتشاكس الجميع، وتشارك في مؤامرات السياسة وهي دون العشرين، تتحول في هذا الجزء من المذكرات إلى شخصية مختلفة تماما، تكاد أن تكون محطمة تحت وطأة الغربة الروحية واللغوية والثقافية، في السنوات الثلاث الأولى، ثم بكارثة وفاة زوجها وتدهور أحوالها المادية في السنوات اللاحقة. أقول تكاد، ولكنها لم تتحطم قط، فروح الأميرة القوية وعزيمتها الفذة وصفاؤها الفطري يأبى إلا أن يطل بقوة بين ركام الخوف والعوز والوحدة المريرة والعزلة اللغوية.
لقد اختارت الأميرة سالمة بشجاعة فائقة أن تبقى في ألمانيا بعد وفاة زوجها لينشأ أبناؤه في بلاده وعلى تقاليدها، على الرغم من أنها فقدت كل نصير وكل أمل هناك، وكانت العودة إلى زنجبار هي أملها الوحيد في الحياة، بل قاومت فكرة الانتقال حتى إلى إنكلترا من أجل التمسك بهذه المثالية العالية.
وقد انتهى بالأميرة المطاف إلى أن تبيع مجوهراتها لإطعام أطفالها الخبز الأسود! كم عبَّرت عن ذلك بألم وأنفة: «الحرص المخيف على القرش الحقير، ليتكفف به الإنسان، كان شيئا مهينا ومذلا لي». ونرى آثار هذه العزيمة في تعلمها الكتابة بعد وفاة زوجها، ثم في مواظبتها على دروس في العلوم والفلك، وإصرارها على رعاية أطفالها بنفسها رغم نوبات المرض والإنهاك العصبي التي عانت منها لســـنوات بعــــد وفاة زوجها، تلك الحادثة الأليمة التي تحتل فصولا عدة مؤثرة للغاية من الكتاب، إذ تصف الأميرة سالمة تفاصيل فقدها لزوجها بحادث سقوطه تحت عربة القطار، بعد ما لا يزيد عن ثلاث سنوات على زواجهما، وفي هذه الفترة العصيبة أدركت معنى أنها فقدت الأهل والوطن والثروة في غضارة شبابها، وبموت زوجها فقدت كل سبب يبقيها في ألمانيا، كما فقدت الرغبة في الحياة كلها، ولكن كان عليها المقاومة من أجل أطفالها الثلاثة، والانتقال من مدينة ألمانية إلى أخرى وشبح الفقر يطاردها.
يقدم الكتاب أرضا خصبة لدراسة الثنائيات بين الشرق والغرب، وفيه تناقش الأمـــيرة سالمة قضايا عديدة منها «التناقض الأوروبي» في قضية تحرير العبيد، ومصير الأموال التي تُنفــــق في سبيل ذلك، من قبل أناس» لا يعلمون عن الزنوج في أفريقيا واحتياجاتهم إلا كما نعلم أنا وأنت عن الكواكب الأخرى». وتلتفت في هذا السياق إلى الفارق الشاسع بين الأغنياء والفقراء في الشمال، واستعباد الخدمة العسكرية، و«شيطانية» أن يحارب المسيحيون في أوروبا بعضهم بعضا.
إنها توضح بدقة وحكمة سبب ضعف تأقلمها مع الغرب: «إن المرء هنا في أوروبا يولد ويربى لكي يخضع ويستسلم لآلاف القيود التي تمس الحرية الشخصية وتجعل من الفرد مجرد رقم. لا يتناسب معنا، نحن الشعوب التي تعيش بالفطرة، هذا التقييد، فالقلب لدينا يأتي أولا ثم تأتي بعده القوانين الباردة». إن الأميرة الممزقة بين عالمين ودينين وثقافتين تجد ببساطة إن عدم حمد الله على المائدة شيء غريب جدا، فقد كانت تعتقد أن جميع البشر بغض النظر عن كونهم متدينين أم غير متدينين، فقراء أو أغنياء، أشرافا أو وضيعين، يدينون بالشكر لله وحده على رعايتهم وإيجادهم. إنها كما عبرت عن نفسها بصدق وأسى: «كنت أعيش في الحقيقة حياتين، روحية محوطة بسماء زرقاء أبدية، تنتعش فيها صوركم الحبيبة (أحبابها في الشرق) ، ولكن الحياة الأخرى هي مثلما قدرت لي في الحقيقة هنا».
إن سالمة – في وحدتها وغربتها- أميرة حقيقية، فهي لا تحمل همَّها الشخصي وحسب، بل هم الصورة عن شعبها كله، وفي إعدادها لأول حفل في بيتها كان ما يشغلها هو أنها لو أخفقت لن تُنتقد لشخصها فقط وإنما لسذاجة الجنس الذي تنتمي إليه، الجنس الشرقي. إن القارئ لا يملك إلا الإعجاب بروح النزاهة العالية، والمثالية الرفيعة التي تحلَّت بها الأميرة وحافظت عليها في أحلك الظروف، وإن كان تواضعها بيِّنا وهي تحكي عن دهشتها من المسرح، فإن آراءها القوية تجاهه تكشف عن نفس معتدة وواثقة.
كما تكشف الأميرة عن إنسانة رحيمة ترى أن تركها أطفالها من أجل رحلة للتنزه هو تصرف عديم الشفقة. وقد ظلت كل أفكارها ومشاعرها منصرفة إلى زنجبار حتى بعد ولادة طفلتها الثالثة «كنت حقا لا أرى أحدا في المنام سواكم ليلة إثر ليلة».
ولا بد في الختام من الإشارة إلى العربية الرائقة التي ترجم بها زاهر الهنائي الكتاب، وإلى مقدمته المهمة للترجمة، وملحق الصور والوثائق، وبانتظار ظهور المزيد من كتاباتها ومقالاتها بالعربية ستظل الأميرة العمانية الزنجبارية رمزا لامرأة عربية قوية اختارت الحب. وقد صدقت إذ قالت:
«العالم الذي لا مشاعر له ليس لديه تفهم صحيح لما نشعر به ونحسه في أعماقنا».