مدونة زاهر الهنائي
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس

الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

أقدم دراسة شاملة 1894، جهود الاستشراق الألماني في دراسة اللهجة العُمانيّة... مجلة نزوى، العدد ١١١

 تُعدّ هذه المساهمة محاولة لرصد جهود الاستشراق الألماني في دراسة اللهجة العُمانية تحديدا، ولا تناقش جهد المستشرقين الألمان في دراسة التنوع اللغوي في عُمان1. وتُعنى، بشكل خاص، بجهد المستشرقين الألمان أو أي نشر من قبل المؤسسات الألمانية داخل القطر الألماني، ولا علاقة لها بما كتب من بحوث ودراسات باللغة الألمانية خارج القطر الألماني2 من غير الألمان، ولذلك لم تتعرض المساهمة، على سبيل المثال، للدراسة المهمة للمستشرق النمساوي رودو كناكيس عن اللهجة العربية المستعملة في ظفار، والتي نشرها سنة 1911 في فيينا باللغة الألمانية3.
يُعدّ الاستشراق الألماني، بالنسبة إلى الاستشراق الأوروبي، رائدا في دراسة اللهجة العمانية؛ فأقدم دراسة شاملة في اللهجة العمانية هي دراسة المستشرق الألماني كارل راينهارت Carl Reinhardt، التي نشرها في وقت مبكر سنة 1894 بعنوان “لهجة عربية محكية في عُمان وزنجبار” (Reinhardt 1894)، حاول راينهارت في دراسته هذه تقعيد لهجة وادي بني خروص خصوصا، ولهجات المناطق بين نزوى والرستاق بشكل عام، كما يشير إلى ذلك في مقدمته -سنتعرض لدراسته بالتفصيل لاحقا-. وقد سبق راينهارت في دراسته للهجة العمانية اثنان من المستشرقين الألمان، فقد نشر فرانس بريتوريوس مقالا في مجلة الجمعية الألمانية الشرقية سنة 1880 بعنوان: “حول اللهجة العربية في زنجبار”Praetorius 1880) )، حاول بريتوريوس هنا وصف ظواهر اللهجة التي كان يتحدث بها العمانيون في زنجبار ذلك الوقت، مسجلا بعض الألفاظ والتراكيب المستعملة في الحياة اليومية، وأكد في بحثه أن المستوى اللهجي في زنجبار هو نفسه المستعمل في مسقط. كما تُبرز دراسته ظاهرة التباين اللهجي في اللهجة نفسها، كما يقارنها ببعض ظواهر اللهجات العربية اختلافا وتشابها، كما يرصد أيضا، بشكل هامشي، تأثير اللهجات العربية الأخرى عليها من ناحية، وتأثير لغات أخرى كالفارسية والهندية من ناحية أخرى، كما يحاول كشف علاقتها بلغات سامية أخرى كالأمهرية والأثيوبية والمالطية والتغرينية (ينظر Schmid 2015) . وتعد محاولته هذه أول محاولة ألمانية لدراسة اللهجة العمانية.
كما نشر الألماني برنهارد مورتس Bernhard Moritz سنة 1892 مجموعة من الكتابات والمراسلات من زنجبار وعُمان تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر (Moritz 1892). أعد مورتس هذا العمل في الأساس لغرض تدريس اللهجة العمانية في الجامعات الألمانية، وذلك في إطار دراسة اللهجات العربية المختلفة، ويهدف إلى مساعدة الطلاب في التمرن على اللهجة من خلال هذه النصوص الحية المختلفة التي جمعها، ويحتوي الكتاب على 116 وثيقة رتبها وفق تسلسلها الزمني، كما وضع لها قاموسا بالمصطلحات الواردة فيها مترجمة إلى اللغة الألمانية، ومقدمة عامة أو مدخلا إلى اللهجات العربية ولهجة عمان. ورتب الوثائق في سبعة فصول، جاءت على النحو الآتي:
الفصل الأول: جمع فيه كتابات رسمية صادرة من مكتب السلطان برغش وأخيه السيد خليفة.
الفصل الثاني: يتضمن كتابات لمطالب وحاجات موجهة إلى السلطان.
الفصل الثالث: فيه مجموعة من الوثائق المتعلقة بالبيع والشراء، كصكوك لبيع الأراضي والمنازل، ووثائق لتأجيرها، كما يحوي وثائق في تجارة الرقيق والديون والوصايا والفواتير، وبعضا من أحكام القضاء…
الفصل الرابع: يحوي رسائل لتجار من الساحل الصومالي.
الفصل الخامس: يجمع فيه رسائل خاصة من زنجبار وبرّ شرق أفريقيا.
الفصل السادس: يحتوي على رسائل خاصة من عُمان، ورسالة من جِدّة بالمملكة العربية السعودية.
الفصل السابع: يتضمن كتابات من محفوظات أرشيف الجمعية الألمانية – الشرق أفريقية، كبعض الاتفاقيات وأوامر إلى أحد الولاة، ووثائق في ما يتعلق بالجمارك واستئجار السفن..
وقد استفاد من عمل راينهارت كلّ من الألمانيين هاينريش بروده Heinrich Brode (١٨٧٤-١٩٣٦) وفالتر رويسلر Walter Rössler (١٨٧١-١٩٢٩)، اللذين كانا يعملان في القنصلية الألمانية في زنجبار، فقد قام رويسلر بنشر كتاب: “Nachal und Wad il Ma’awil. Eine Erzählung im. Omandialekt، سنة ١٨٩٨ رصد فيه سردية بلهجة نخل ووادي المعاول وقام بترجمتها إلى اللغة الألمانية، كما أصدر عملا آخر عن اللهجة العمانية سنة ١٩٠٠ بعنوان: «تاريخ مرض الجدري.. سردية باللهجة العمانية» Die Geschichte von der Pockenkrankheit: Eine Erzählung im Omandialekt، أضاف نصوصًا أخرى من اللهجة العمانية المحكية في زنجبار تتحدث عن تاريخ مرض الجدري، أما هاينريش بروده فقد نشر كتابًا عن اللهجة العمانية سنة ١٩٠٢ بعنوان: Der Mord Sejid Thueni’s und seine Söhne، جمع فيه نصوصًا من اللهجة العمانية المحكية في زنجبار تتحدث عن مقتل السيد ثويني وذِكرٍ لأبنائه..
ثم سادت بعدَ ذلك فترة انقطاع طويلة في دراسة اللهجة العمانية لدى الألمان بشكل عام والمؤسسة الألمانية بشكل خاص. ولم ينقطع هذا الصمت إلا بظهور دراستين (2009، 2011) لأحد الباحثين باللغة الإنجليزية في مجلة دراسات اللغة العربية التي تصدرها جامعة هايدلبرج الألمانية4. فقد نشر الباحث اللغوي الإنجليزي دومينيك إيديس من جامعة ليدز سنة 2009، بحثا بعنوان: “Retention of the passive verb in a Bedouin dialect of northern Oman” (Eades 2009)، وبحثا آخر سنة 2011 بعنوان: “A Transitional Arabic Dialect of the Northern Omani Interior” (Eades 2011)، ثم قام هاينر فالتر سنة 2013 بنشر كتيّب يهدف إلى تعريف السائح الألماني باللهجة العمانية، بعنوان: “العربية العمانية، كلمة بكلمة” (Walter 2013)، ويحتوي عمله على مقدمات نظرية في قواعد اللهجة، وخصص جزءا للجانب العملي، احتوى على نماذج من المحادثات في مختلف مواقف الحياة اليومية، كما وضع مقدمة للتعريف بالبلد وعاداته وتقاليده، ليستفيد منها السائح الألماني، المستهدف الرئيس من وضع هذا الكتاب، ولكن يتسم هذا الكتاب بالمعالجة السطحية في دراسة اللهجة لطبيعة الهدف ودافع المنشأ. يحاول فالتر حاليا إصدار نسخة صوتية جديدة من الكتاب بالاستعانة بأصوات عمانية، تساعد السائح الألماني على التعرف بدقة على العبارة واللفظ سماعا ونطقا.
وفي 2015 قدّم الباحث يونَتان شميد من معهد الدراسات الاستشراقية بجامعة لايبزج دراسة تحليلية بعنوان: “العربية المحكية في عُمان” (Schmid 2015).
سنسلط الضوء فيما يلي على عمل المستشرق الألماني كارل راينهارت، الذي يعد أقدم دراسة شاملة عن اللهجة العمانية.
Ein arabischer Dialekt, gesprochen in Oman und Zanzibar
اللهجة العربية المحكيّة في عمان وزنجبار1984 شتوتجارت وبرلين
تعدّ دراسة كارل راينهارت أقدم دراسة شاملة للهجة العمانية، سواء على مستوى الاستشراق الألماني أو الأوروبي. وكان راينهارت قد اطلع على مساهمة الطبيب الإنجليزي من أصل هندي جاياكار التي نشرها سنة 1889 في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية فيما يتعلق باللهجة العمانية (Jayakar 1889). ولكنه وجدها قد فقدت كثيرا من قيمتها لافتقادها إلى إعادة كتابة اللهجة بالأصوات التي اعتمدتها الجمعيات الاستشراقية. تكتسب دراسة راينهارت قيمتها من كثرة اعتمادها على الكتابة الصوتية لوصف النطق بدقة، وكذلك من الدقة والصرامة التي اتبعها في تقعيد اللهجة stringent structuring، كما تحفل الدراسة بكثير من النصوص والحكايات والأمثال. ويبدو أنه كان يحذو في ذلك حذو كتاب قواعد اللغة العربية الكلاسيكية لكاسبَري5، حيث كان يحاول أن يصف اللهجة على نحو من الكمال مثلما فعل كاسبري في وصف اللغة الكلاسيكية، وكان شغله الشاغل أن يشتغل على منهج اللائحة النظيفة clean slate، فلم يُعر اهتماما باللغة المكتوبة أو اللهجات العربية الأخرى (Schmid 2015). ويذكر في بداية مقدمة الكتاب أن وطن اللهجة التي سيصفها فيه هي لهجة وادي بني خروص أو تقريبا لهجة المناطق الواقعة بين نزوى والرستاق، وسبب هذا الاحتمال في تعيين اللهجة هو اعتماده في تسجيل اللهجة على أناس قدموا من عُمان إلى زنجبار، وليس من خلال إقامة الباحث في وادي بني خروص، فراينهارت لم يذهب إلى عُمان إلا عرضًا. وقد أشار إلى ذلك في مقدمته، وأوضح أنه قد خطط للذهاب إلى عمان ومعاينة اللهجة على الواقع لاختبار نتائجه وما توصل إليه في دراسته، ولكنه، حسبما يذكر، لم يوفق لذلك.
يصنف راينهارت اللهجة التي اشتغل عليها أنها أقرب إلى لهجة البدو، مع أن أهلها يعدون حضرا. كما يشير إلى أن وصف هذه اللهجة بالعمانية ليس دقيقا تماما باعتبار أن هناك في مسقط أو في صور لهجة مستعملة، وأن اختلافات جوهرية تظهر هنا في اللهجة المعالجة. ونظرا للوجود العماني في شرق أفريقيا، يرجعه هو إلى ألف سنة تقريبا، فإن هذه اللهجة أصبحت لغة الوجهاء، وخاصة لغة البلاط، ولغة الثلثين تقريبا من العرب القاطنين هناك، في حين تسود اللغة السواحلية كلغة دارجة أخرى قد تسلل إليها كثير من الكلمات العربية. وقد كان دافعه إلى تأليف هذا الكتاب في المقام الأول -كما ذكر- يتمثل في طلب المستشرق الألماني المعروف المستشار إدوارد ساخاو، الذي كان حينها مديرا للدراسات الشرقية، فقد طلب منه إعدادَ كتاب عمليّ عن هذه اللهجة التي أصبحت “مهمة” والحاجة إليها ملحة، بسبب الاستعمار الألماني لشرق أفريقيا -على حدّ تعبيره- وذلك بمناسبة سفره إلى زنجبار عام 1888. قام راينهارت بجمع مادة الدراسة خلال إقامته في زنجبار خمس سنوات، وقد وصف عمله بالمضني في تلك الأجواء الاستوائية الحارّة. ولم يكن همه في ذلك أن يشتغل بوضع مقارنات بين اللهجة المحكية هناك وغيرها من اللهجات العربية أو الانشغال بلغة الكتابة كما فعل بعض من اشتغل على اللهجات، وإنما كان شغله الشاغل أن يجمع أكبر قدر من المادة اللغوية لهذه اللهجة المحكية “الرائعة” -حسب تعبيره- مدعومة بالقواعد ليستفيد منها الدارس. وقد كان على اطلاع بما نشره الطبيب جايكار عن لهجة مسقط، كما سبق الذكر، إلا أنه ذكر أنه لم يتمكن من الاستفادة من هذا العمل، وقد علل ذلك بسطحية معالجة جايكار، واحتواء عمله على بعض الأخطاء، واشتماله على عموميات فقدت قيمتها لفقدانها كتابة المادة اللغوية بالطريقة التي تعتمدها الجمعيات الاستشراقية (Transcription). كما أشار إلى دراسة الدكتور مورِتس (Moritz 1892)، التي تختلف عن دراسته في أنها اشتغلت باللغة المكتوبة، فقد اشتملت على كم كبير من أصول من الرسائل الكتابية ومعجم للمصطلحات الواردة في هذه الرسائل. وبيّن راينهارت أن نيَّته في الأساس، كانت إظهار التباين بين هذه اللهجة في النطق والكتابة، ولكن وجب عليه أن يتخلى عنها، لأنه رأى أن صورة اللغة المُحصَّلة ستكون غير كاملة في النهاية وستترك مجالا واسعا للشك. وعلق آمالا على أن يقوم بهذا العمل ويكمله المشتغلون في حقل دراسات اللغة العربية؛ لأن هذه اللغة المعالجة، -اللهجة هنا- تُظهر قدرا من سلامة المبنى والمعنى للغة الساميّة كما لا تظهره لهجات عربية أخرى. وكان راينهارت حريصا قدر الإمكان، على ما يبدو، أن يكون الكتاب جاذبا للمتعلم من خلال عنايته في انتقاء الرواية واختيار الأمثلة وترك بعض الشواهد. كما أشار أيضا إلى صعوبة العمل الذي قام به وأنه لن يعدم بعض النقد واللوم في بعض الجوانب من قبل بعض أساتذته وزملائه، ولكنّ القناعةَ بأن الاشتغال بقواعد اللغة العربية مسلك شاق وصعب، كانت تخفف عنه ذلك. ويُظهر الباحث هنا تواضعا بقوله: إنه وضع هذا الكتاب للطلاب، مع أنه لا يزال هو بنفسه أحد الطلاب، ولكن ما يشفع له القيام بذلك هو طول وقِدَم علاقته وصحبته للعرب (العمانيين). كما يعترف بأنه لم يكن وفيا دائما لمبادئ العمل وأساسياته في عمله هذا، مما نتج عنه ظهور بعض التناقضات في الكتاب. ولكنه يعتذر عن ذلك بأنه قد أَلَمّ به مرض شديد أثناء عمله منعه من إكمال الكتاب، فنوى التوقف عند الصفحة 231 وبدا له أن يترك موضوع الفعل في الملحق على شكل جداول. ولكن بعد تحسن صحته قليلا دفعه الشعور بالواجب مرة أخرى وكذلك إجلاله لطلب أستاذه المستشرق الألماني المعروف البروفيسور نولدكه، صاحب تاريخ القرآن، إلى أن يتمّ ما بدأه. ولكنه لم يتمكن من تعديل ما تمت طباعته سابقا من العمل؛ ولذا وقع ذكرُ بعض الأشياء والكلام عنها في المكان الخطأ، مما أدى إلى الإضرار بالشكل دون المادة -حسب تعبيره-. كان راينهارت يتذمر دائما من الأجواء الاستوائية الحارة الرطبة التي تجلب إلى الإنسان التعب والإرهاق، ولا تعينه على إنجاز عمل “فيلولوجي” يتطلب أجواء منعشة باردة، ويتشكى أيضا من قلة المواد التي تعينه على إنجاز مهمته البحثية. وقد تمنى بعد عودته إلى ألمانيا أن يراجع العمل مرة أخرى ويضيف إليه ويعدل فيه. ولكن رغم هذه النواقص -حسب تعبيره- التي ضاءل فرصةَ إتمامها بعدُ الكاتب عن مطبعة الرايخ، وأمل راينهارت أن يغفر له القارئ المتساهل ذلك في ظل ظروف نشأة الطبعة الأولى، وأن يشفع له ما أظهره من جدية في العمل، وكذلك إسهامه في نشر لهجة عربية لم تكن معروفة. كما يذكر أن تعدّد مهامه وأعماله كمترجم في غير ما جهة قد صعّب عليه كثيرا إنجاز عمله لهذا الكتاب، فقد كان يعمل مترجما للقنصلية، ولمفوضية الرايخ، وكذلك للجمعية الألمانية- الشرق أفريقية، ولكن تطلَّب ذلك منه، من جهة أخرى، تمكنا واسعا، قدر الإمكان للهجة المحكية، مكنه من التعامل معها والتأليف فيها. ولم يبق له خيار، كما يقول، إلا أن يضع كلّ جهده ووقته في دراسة اللهجة المحكية وأن يزهد في كل الملذات والمسرّات الأخرى. كما أشار راينهارت إلى صعوبة قد واجهته في إعداده العمل لم يكن سيجدها لو كان في الجزائر مثلا أو سوريا ومصر، وهي قلة العرب الذين يتحدثون لغات أوروبية في زنجبار، فهو يرى أن ذلك مما كان سيهوّن عليه الأمر ويخفف عنه شيئا في دراسته. ويُرجِع السبب في قلة تحدث العرب في زنجبار باللغات الأوروبية إلى قلة احتكاكهم بالأوروبيين؛ إذ لم يكن اتصالهم بهم يتعدى أمر قضاء أعمالهم التجارية في أوروبا ثم العودة مباشرة إلى أوطانهم. يذكر راينهارت أيضا أن هناك مشكلة واجهها غيره من المستشرقين المهتمين باللغة العربية عندما يعزمون على دراسة اللهجة وهي صعوبة العثور على أناس مناسبين في دراستها، ويُعلَّل لذلك بأنه في سنوات الحرب كان يُنظر إلى العربي الذي يعتاد بيت أحد الألمان أنه خائن ويصبح موضع سخرية وتندُّر لاذع من قبل أبناء بلده. وقد أثنى على السيد خليفة بن سعيد وتعاطف العمانيين معه، وحمد لهم وقتهم، وجهدهم الذي صرفوه في مشروع دراسته. وذكر مجموعة من العمانيين الذين استعان بهم في مهمته، فكان أول من استعان به شخص كان يُدعى “سعيد” من الرستاق، وذكر أن أجداده يعودون إلى أصل يهوديّ، وأنه لا يزال يحمل ملامح جنسه، وقد أتى إلى زنجبار منذ عشر سنوات، وكان يستطيع القراءة والكتابة، ولذلك استبعد أخذ اللهجة منه، وأحل مكانه رجلا يدعى “عبد الله الخروصي”، عمل معه سنتين وقد أثنى عليه التزامه بواجبه، وكان يدفع له أجرة شهرية من ماله الخاص تبلغ حوالي 100 مارك. وكان عبدالله هذا يجلب لراينهارت أناسا قد قدموا حديثا من عمان. وفي السنوات الأخيرة من إقامة راينهارت في زنجبار استعان بشخص يدعى “علي العَبري”، الذي قدم من العوابي، وكان لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وقد كان رجلا قليل الكلام بطبيعته، مما جعل راينهارت يعاني من صعوبة في الحصول منه على الألفاظ، وكذلك الحكايات والقصص، ولكن راينهارت يحمد لعلي العبري أنه لم يكن صاحب خيال، مما يجعله أكثر مصداقية وواقعية في روايته. ويذكر أنه كان بعكس عبدالله، فهو عندما يسأل عبدالله عن معنى كلمة ما أو عبارة فإنه سيكون مطمئنا أن الإجابة من عبد الله ستكون مثلما توقعها هو، فقد كان عبدالله يرى أن من الإحراج مثلا أن يقول لراينهارت أن توقعه ليس في محله، وأنه بذلك يخدم راينهارت على أفضل حال. أما علي فكان صريحا مع راينهارت، فيقول له إن هذه الكلمة لا يعرفها أو هي ليست دارجة وعليه أن يقول في هذه الحال كذا وكذا. وبهذا لم يبق لراينهارت -على حدّ تعبيره- من خيار إلا أن يراجع مرة أخرى تسجيلاته الكتابية، ويسأل عن بعض النقاط التي يشك فيها عمانيين آخرين، حتى أنه اطمأن في النهاية إلى أن أي كلمة أو عبارة في هذا العمل هي محل ثقة، وخاصة أن أُلفته للغة أصبحت بعد ذلك أكثر، ورهافة وحِدَّة سماعه لها زادت، وهو المتطلب الرئيس في دراسة اللهجة. وتمنّى أيضا لو تتاح له عشر سنين أخرى في صحبة “أبناء الصحراء” -حسب تعبيره- حتى يبلغ بعمله التمام، إذ كانوا -في نظره- يملكون ثروة لغوية هائلة، ولا غروَ، فلغتهم تتنفس أيضا نسيم صحاريهم المنعش، فبينهما ألفة ومودّة لا نكاد نفهمها!، مثلما عبر عن ذلك. كما يشير في مقدمته إلى أنه يُعَد استثناء أن يصل الحضري أو الأوروبي إلى مستوى اللغة التي يملكها هؤلاء الناس، ولذلك فهو يرى أنه من غير الممكن للأوروبيين الكتابة عن روح اللغة، النحو، أكثر من عموميات. كما حاول راينهارت ترجمة الكلمات والعبارات ترجمة حرفية قدر الإمكان حتى يحافظ على المعنى الأصلي. وكان يحرص على ملاحظة ورصد تعدد المعنى للكلمة في سياقاتها المختلفة. وقد أهمل راينهارت وضع فهرس للكلمات في نهاية الكتاب، كما جرت العادة، والذي كان ينوي فيه تسجيل بعض التباينات المعروفة في النطق. وقد علل ذلك من أجل توفير المساحة، وكذلك لأن الفهرس سيظل ناقصا -على حد تعبيره-. ولكن بعد تحفظه على ذلك، أشار في مقدمته إلى أنه لاحظ أن هناك عددا كبيرا من الكلمات كان بحاجة إلى مزيد توضيح وشرح نتيجة تغير وتبدل صوتي فيها، ولاحظ أيضا وجود عدد من الأبيات التي تعود إلى شعر المتنبي والحريري، الشاعرَين المفضلين لدى أهل عمان -حسب تعبيره- كانت بحاجة إلى تسجيلها وتوضيحها في هذا الفهرس. وقد اعتمد راينهارت في تقعيده على عدد كبير من الحكايات والمحادثات ومعجم حافل بالأمثلة. وقد اختار لنفسه طريقة خاصة لكتابة هذه الحروف العربية الثلاثة خ، ذ، ث، باستخدام رموز من الكتابة الإغريقية الحديثة بسبب عجز لغة الكتابة القديمة عن تمثيل المباني الجديدة بشكل جيد، مثلما يرى، كما أنه لم يلتزم في أجزاء من كتابه بتحويل الكتابة العربية إلى أحرف لاتينية، وذلك من أجل توفير المساحة -حسب تعبيره-. ولا يذكر في دراسته صيغ الأفعال القياسية والمطّردة، وكذلك الأفعال التي لا تمثل قدرا معتبرا من الصعوبة في بنائها. ويشتمل ملحق الكتاب -وهو الجزء الرابع والأخير من كتابه- على مجموعة من النصوص والحكايات، و200 مَثَلٍ، ومختارات من أشعار الحرب. والهدف منها -كما يذكر- تقديم عينة من اللهجة وإبراز كيف يتحدث ويفكر العماني غير المتعلم. وكان اختياره للحكايات التي تعالج ما يحدث في الحياة اليومية المعتادة، ولم يلتفت إلى حكايات ألف ليلة وليلة، لأن هذه الحكايات، التي عُرفت حدَّ السأم، في نظره، لا تناسب أن تكون مادة للغة العامية Volkssprache، كما اختار أربعة نماذج من الأساطير من كتاب قواعد اللغة العربية للمستشرق الألماني أدولف فارمُند، وأسطورة من كتاب قواعد اللهجة المصرية للمستشرق الألماني فِلْهِلم شبيتّا، أعاد صياغتها باللهجة العمانية، لإظهار مدى مناسبتها في هذا القالب الجديد. وقد كان يقرأُها بنفسه أولا أمام أحد العمانيين ويطلب منه بعد ذلك أن يرويها بلهجته بكل عفوية. ولكن لعدم وجود راوٍ محترف في زنجبار -حسب تعبيره- ظهر على سرد الحكايات بالنسخة الحديثة شيءٌ من التكلف والرتابة وضعف التدفُّق، ما يشي بأن الحكايات ليست من رحم هذه المستوى اللغوي الذي أُلبست إيّاه، ولذلك ينشد المرء من ذلك في الأخير -كما يرى- وفرة الصيغ والدقائق في بناء الجملة ووضوح التعبير ودقته. وكانت طريقة راينهارت في ذلك أن يدوّن مباشرة كل ما يخرج من فم الراوي على الورق، مع الأخطاء والنواقص، ثم يناقش الراوي بعد ذلك في بعض الجوانب النحوية والمعجمية. أما الأمثال التي أوردها في كتابه، فيشير راينهارت إلى أنها بشكل عام من الأمثال المستعملة، وقد أكملها بالاعتماد على عدد كبير من الأمثلة وعلى أبيات للمتنبي والحريري تُستَعمل استعمالَ المثل. كما يذكر أن شغف العُمانيين ودرايتهم بشعر المتنبي والحريري تماما مثل إلمام المتعلم لديهم بالقرآن، إذ كانت أحاديث سمرهم ومدار نقاشهم. وقد اختار راينهارت أيضا عينة من شعر الحرب الذي رواه له “علي العبري”، الذي سبق ذكره، واعتمد في ذلك على الأسهل منها قدر الإمكان. ولفت إلى أن الشعر الشعبي ليس عديما في عمان، فقد ذكر أنه كان في مسقط سنة 1893، وكان دافعه إلى ذلك، كما يقول، الشغف في التعرف على هذا البلد النائي المثير والمجهول، وجمع عينات من اللغة لمختلف القبائل والتعرف كذلك على جغرافيته، ولكن خططه واستعداداته -كما يقول- تعثرت أمام مكيدة دبرت له من قبل القصر في مسقط. وقد كان يتمنى، بما لديه من اتصالات عديدة في الداخل ومعرفته باللغة، أن يعطي قليلا تصوّرا عن البلد وأهله، الذين ورد ذكر بعضهم في كتابه. ويرى راينهارت أيضا أن العماني لا يصعب عليه فهم الشعر العربي بسبب قرب لهجته من اللغة الفصيحة، وأن اللهجة العمانية أقرب إلى العربية الفصيحة حتى من لهجة نجد ولهجة عنزة وشمّر، فضلا عن لهجة مصر وسوريا.
قسّم راينهارت كتابه إلى أربعة أجزاء، في 428 صفحة. تتضمن الأجزاء الثلاثة الأولى منه مقدمات نظرية؛ فالجزء الأول خصصه للجانب الصوتي، واشتغل على الصرف في الجزء الثاني، أما الجزء الثالث فقد ناقش فيه النحو. وختم الكتاب بالجانب العملي، فاشتمل على نصوص وحكايات وأمثلة وبعض من أشعار الحرب باللهجة المحكية.

كانت هذه نبذة عامة عن الكتاب وجهد راينهارت، تحاول لفت أنظار الباحثين إليه والاستفادة من منهجه في محاولته تقعيد إحدى اللهجات العمانية في هذا الوقت المبكر.

زاهر الهنائي

الثلاثاء، 17 مايو 2022

في رحيل المؤرخ والباحث الألماني البروفيسور هاينز جاوْبَه Heinz Gaube (١٩٤٠ – ٢٠٢٢).. مقال تأبيني نشر في الفلق الإلكترونية https://www.alfalq.com/?p=25813

وُلد المؤرخ والعالم الألماني هاينز جاوْبَه في يوم الثامن من سبتمبر سنة ١٩٤٠ في المدينة التشيكية تشيسكا ليبا، ورحل عنا قبل أيام في العاصمة الألمانية برلين في العشرين من العام الحالي، بعد سيرة حافلة بالترحال والعطاء والبحث والمعرفة. يُعدّ البروفيسور جاوبه من بقية المستشرقين الألمان الكبار الذين قدّموا إسهامات جليلة في مجال الدراسات الاستشراقية. وقد حظيت سلطنة عُمان باهتمام هذا المؤرخ الكبير؛ فقد بدأ توجّهه في دراسة عُمان منذ سنة ١٩٩٥، وقام بإدارة المشروع البحثي البيني: Transformationsprozesse in Oasensiedlungen عمليات التحول في مستوطنات الواحات في عُمان. وأجرى بحوثًا حول الحضور العُماني في المناطق المحيطة بالمحيط الهندي. وكان له إسهام مهم أيضا في إنتاج الفيلم الوثائقي Atlantis der Wüste، الذي عملتْ على إنتاجه القناة الألمانية 3sat سنة ٢٠١٢، وكان موضوعه عن واحات الربع الخالي. كما قدّم جاوبه محاضرة بعنوان: Die Omanis in Ostafrika العُمانيون في شرق أفريقيا، في جامعة توبنجن في إطار معرض التسامح ٢٠١٩، الذي تُشرف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عُمان. وقد أشرف على تنظيم مؤتمر The Ibadism of Oman إباضية عُمان، الذي عُقد سنة ٢٠١١ في جامعة توبنجن بألمانيا، كما له دراسات ومقالات عن الفن الإسلامي في عُمان والمصاحف المزخرفة وعن قصر جبرين وعن الحضور العُماني في زنجبار... 


نَشر تلاميذُه، المؤرخ الألماني البروفيسور Lorenz Korn، والباحث في الدراسات الإيرانية الدكتور Florian Schwarz، والمتخصّصة في الدراسات الإيرانية أيضا البروفيسورة Eva Orthman، كتابا رائعًا تكريمًا له سنة ٢٠٠٨ بعنوان: " Die Grenzen der Welt: Arabica et Iranica ad honorem Heinz Gaube"، يتضمن مقالات لعدد من الباحثين[1]، وقد احتوى على مقدمة تعريفية بالبروفيسور جاوبه بعنوان: " Von Aleppo bis Zitadelle. Heinz Gaube als Forscher und Lehrer، من حَلَب إلى القلعة، هاينز جاوبه باحثًا ومعلّمًا"، وعلى توثيق مفصّل لبحوثه ودراساته، يضيء مسيرته الحافلة بالبحث والاستقصاء والمعرفة، وأسفاره ورحلاته العلمية في مدن الشرق الإسلامي المختلفة.

لم أحظَ بلقاء جاوبه، ولكني صادفتُه كثيرًا من خلال مقالاته الرصينة وإسهاماته العلمية وعطاءاته المعرفية في كثير من المجلات العلمية المرموقة، فلقد لفتني بحثه وتمكّنه واستقصاؤه، وشاءت الأقدار أن يُلقي جِرانَه بعُمان، بعد ذلك الترحال والتطواف في بلدان شتى من الدنيا، وتكون أرض عُمان محطًّا لدراساته وشغفه البحثي.. فقد عاش في عُمان بعد تقاعده من جامعة توبنجن الألمانية، منذ سنة ٢٠٠٨ حتى ٢٠١١، وكان له اهتمام مبكّر قبل ذلك بعُمان، فاستفاد منه ثلّة من طلبة العلم هنا وحملة الدراسات العليا وصَحِبه لفيفٌ من الأكاديميين العُمانيين[2]، وعمل في مشاريع مختلفة لعدة مؤسسات علمية وأكاديمية في البلد[3]، ثم عاد بعدها ليقضي سنواته الأخيرة في برلين.

كان جاوبه أستاذًا جامعيًّا متخصصًا في الدراسات الإيرانية في سمنار الدراسات الشرقية بجامعة توبنجن الألمانية. بعد إكماله المدرسة في منطقة بِنْوَا Benua بمدينة هاله Halle الألمانية، تلقّى تدريبا مهنيا في علم البَصريات وصناعة الساعات، وأدار هناك بنجاح لعدة سنوات محلا للبصريات، ولم يُنهِ مسيرته المهنية هذه إلا ارتحاله إلى مدينة حلب في سوريا، كما غيرت شغفه بالبصريات رؤيته لقلعتها الشهباء فأغرم بها ودارت عليها أهم بحوثه ودراساته! وبدءا من عام 1965 تنقَّل جاوبه في مدن عالمية عدة في أثناء دراسته، فدرَس في هامبورج وفيينّا وسانت بطرس برج الروسية وبيروت ولندن، في حقل الدراسات الإسلامية والإيرانية والساميّة وتاريخ الفن وعلم الآثار والإلهيات (العهد القديم). وعمل بعد حصوله على الدكتوراه عام 1970 في هامبورج، والتحق حتى عام 1975 بالمعهد الاستشراقي للجمعية الشرقية الألمانية في بيروت كمحاضر في البداية ثم اشتغل بالمنح البحثية، وصدرت له في هذا الوقت دراساته الثلاث الأولى. وقد نال لقب الأستاذية عام 1976 من جامعة فرانكفورت. وقد سبق تعيينَه أستاذًا للدراسات الإيرانية في جامعة توبنجن عام 1978 عملُه أستاذًا زائرًا في جامعة نيويورك سنة 1977. 



[1] Die Grenzen der Welt Arabica et Iranica ad honorem Heinz Gaube hrsg. von Lorenz Korn u. a. Wiesbaden: Reichert, 2008 

[2] للدكتور عبد الرحمن السالمي مقال احتفائي بالبروفيسور جاوبه بعنوان: Recollections of the “Grey Wolf” Heinz Gaube and a Quarter of a Century of Oman Studies، يتحدث فيه بشيء من التفصيل عن إسهامات البروفيسور جاوبه في الدراسات العُمانية، نُشر سنة ٢٠٢٠ ضمن مجموعة من مقالات لبعض تلامذة البروفيسور وأصدقائه بعنوان: Ein Forscher zwischen den Kulturen, Festgabe für Heinz Gaube zum 80. Geburtstag ، بمناسبة مرور ثمانين عاما من حياته، ويُعدّ الدكتور السالمي من أبرز الباحثين العُمانيين الذين صحبوا البروفيسور جاوبه وأسهموا بالاشتراك معه في عدة دراسات مهمة تتعلق بعُمان. 

[3] الجدير بالذكر هنا أيضا أن مكتب مستشار صاحب الجلالة للشؤون الثقافية (سابقا) قام باقتناء المكتبة الشخصية للبروفيسور جاوبه، وهي مجموعة خاصة تحتوي على كتب ووثائق وبحوث ودراسات مهمة، وذلك بالتنسيق مع جامعة توبنجن الألمانية.



درّس جاوبه عام 1981 برتبة أستاذ زائر "عمارة وبناء المدن الإسلامية، تاريخًا ونظريةً ونقدًا" في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مدينة كامبريدج بالولايات المتحدة الأمريكية. وعيّن كذلك منذ 1982 أستاذًا في جامعة توبنجن، ولكن هذا التعيين حدث في وقت كانت فيه اضطرابات سياسية أدت إلى توقف البحوث الميدانية في إيران وأفغانستان، فوضع كل طاقته في إنجاز المشروع الضخم "أطلس توبنجن للشرق الأدنى والشرق الأوسط" الذي أشرفت عليه الجمعية الألمانية للبحث DFG، فساهم في الإشراف على المشروع وأخرج بالاشتراك مع مجموعة من الباحثين ١٥٦ مجلدا وسلسلة من الملاحق تحتوي على ١٣ خريطة و٥ دراسات. وأسّس مركز أبحاث المَسكوكات الإسلامية، إذ سعى حثيثا إلى جلب مجموعة خاصة ذات قيمة كبيرة من العملات والنقود الإسلامية عرضت للمزاد العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الثمانينيات، إلى جامعة توبنجن وتأسيس مركز بحثي علمي لها.  وأسس كذلك مركز بحوث التاريخ الاقتصادي والتجاري لشرق المتوسط والشرق الأوسط CEBHEM.كما أجرى جاوبه العديد من الأبحاث الميدانية، منها على سبيل المثال: إجراؤه بحثًا ميدانيًّا من 1968 إلى 1974 في جنوب غرب إيران، ولبنان، على العمارة الريفية، وفي حلب في سوريا في العصور القديمة المتأخرة، والإسلام المبكّر، والكتابة العربية (١٩٨٤)، وأجرى دراسات وخرائط لبَزار مدينة أصفهان الإيرانية (١٩٧٨). وأجرى بعد عام 1975 بحثًا في مدن إيرانية وفي منطقة سيستان ومكران، وبحثًا آخر في التخطيط الحضريًّ في مدينة هِرات الأفغانية Herat، وعمل على فَحْص نشأة وشكل المستوطنات الريفية في اليمن ومدينة الطائف في المملكة العربية السعودية (١٩٩٣). كما أجرى مسحًا أثريًّا جنوب عَمّان (الأردن)، وشارك بشكل فاعل في مشروع إعادة تصوّر يقوم على المشاهدة الحية لمراحل التطوّر التاريخي الذي وقع لمدينة حلب القديمة في سوريا، وليس إلى مجرد إقامة متحف لها، ولذلك قام بتأسيس جمعية "أصدقاء مدينة حلب القديمة" عام ١٩٩٠، ومقرّها مدينة شتوتجارت الألمانية، لتُستخدم أموالها في إجراءات الترميم للمشروع، وقد ساهم أيضا في العمل على إقامة معارض كمعرض Die Gaerten des Islam حدائق الإسلام ١٩٩٣، وِ Erben der Seidenstraße-Usbekistan ١٩٩٥، مستثمرا التعاون بين جامعة توبنجن ومتحف Linden في مدينة شتوتجارت، كما عمل مستشارًا لمشروع وضع تصوّرات لترميم مدينة حِمص القديمة، وأجرى بحوثا ودراسات حول بناء المقابر الإسلامية في باكستان، واشتغل بقضايا العمران والاستيطان للمدينتين الأوزبكيتين خَيوة وبُخارى، ومستوطنات الواحات في سلطنة عُمان، وعمل على تأسيس برامج للدبلوم والدراسات العليا وأرشيفا ومعارض وإقامة مؤتمرات وندوات في مجال العمران الإسلامي.

كان إذن مغرمًا ومشغوفًا بالبحث والتنقيب عن العمارة والإرث الحضاري الإسلامي، في القصور والقلاع والنقوش والمساجد وتجليات العمارة الإسلامية في مختلف مظاهرها. وله إسهامات كبيرة وتآليف عدة وسيرة حافلة بالبحث والكتابة، فكتبه تزيد على العشرين كتابًا، وله عدد وافر من البحوث المحكّمة التي نشرها في مجلات علمية لها مكانتها في الأوساط العلمية[1]، سأقتصر هنا على سرد دراساته المتعلقة بعُمان:

 

1-  Illuminated Qurans from Oman. Hildesheim- Zuerich- New York 2016

2-  Islamic Art in Oman. Muscat 2008، بالاشتراك مع د. عبد الرحمن السالمي وLorenz Korn، له ترجمة عربية، مسقط ٢٠١٤.

3-  Oman A Maritime History. 2017، بالاشتراك مع د. عبد الرحمن السالمي وEric Stales

4-  The “Jabrin Collection”: royal tableware service, Hildesheim; Zuerich; New York: Georg Olms Verlag, 2021

5-  The Ibadis in the Region of the Indian Ocean. Section One: East Africa. Hildesheim-Zuerich- New York 2013.

6-  The Ports of Oman. 2017، بالاشتراك مع د. عبد الرحمن السالمي وEric Staples

7-  Transformationsprocesses in Oasissettlements in Oman. Muscat 2010، بالاشتراك مع Anett Ganler.

8-  الفلسفة الأخلاقية[2]. مسقط ٢٠١٦، بالاشتراك مع محمد الشيخ.

إنّ مثل هذه السطور القليلة بطبيعة الحال لن تفي جاوبه حقّه ولن تردّ له فضله، فقد ترك لنا إرثا علميا زاخرا وعطاء ممتدًّا ثرًّا بحاجة ملحة إلى الاعتناء به والبناء عليه، ولكنها محاولة متواضعة لإظهار شيء من ذلك الإجلال والامتنان الذي نكنّه لهذه القامة العلمية الكبيرة، فلروح جاوبه السلام ولأسرته وأصدقائه وطلابه العزاء.



[1] أعدّ تلميذه الدكتور  Serdar Aslanببليوغرافيا مفصّلة لإسهاماته العلمية، يمكن الاطّلاع عليها من خلال هذا الرابط: https://islam-akademie.de/index.php/bibliographie-terminologie/1006-heinz-gaube-1940-bibliographie?fbclid=IwAR0yJI1nb5XGIPyt74_ZQSu34UzUAHO_0wDme6ftCEWYM75OGkk-FWrya4w

[2]أصله مجموعة محاضرات للبروفسور بالإنجليزية، ترجمها إلى العربية محمد الشيخ.



*الشكر هنا لجميع من قدموا لي مصادر ومعلومات لإعداد هذه المادة، وأخص بالذكر منهم البروفيسور Lorenz Korn، والدكتور عبد الرحمن السالمي، والدكتور خالد البلوشي، والأستاذ Joachim Duester.


البروفيسور جاوْبَه ومعالي الشيخ عبد الله بن محمد السالمي على هامش مؤتمر "إباضية عُمان"، الذي عُقد بجامعة توبنجن الألمانية في مايو ٢٠١١[1]



[1] مصدر الصورة: https://uni-tuebingen.de/universitaet/aktuelles-und-publikationen/newsletter-uni-tuebingen-aktuell/2011/3/forschung/2/



islamic_art_Oman_content_Page_1




زاهر الهنائي











الأربعاء، 22 ديسمبر 2021

ترجمة ثالثة لمذكّرات أميرة عربية،، محمود الرحبي

 زنجبار أرخبيل في المحيط الهندي، وهو جزء من تنزانيا حالياً، ظلّ طويلاً تحت الحكم العُماني، وتحديداً من أسرة البوسعيدي الذين تعاملوا مع المكان بوصفه وطناً، فتركوا فيه بصمات عمرانية ما زالت بارزة للعيان. وقد وصفت الأميرة سالمة في الجزء الأول من "مذكّرات أميرة عربية" والذي كتبته بالألمانية، مكان ولادتها ونشأتها زنجبار كأنّه فردوس دنيوي. فقد امتلأت تلك المذكّرات بتفاصيل أميرة في قصر والدها السلطان بكلّ ما تعني حياة القصور من رفاهية وبذخ. لكن، كان للحب رأي آخر، حين تركت وطنها الأفريقي، ولم تحمل معها منه سوى حفنة تراب. واختارت أن تتزوّج شاباً ألمانياً وتسافر معه، ثم يموت فجأة ويتركها مع ثلاثة أبناء، مع ما ترتب على ذلك من معاناة وتشرّد. أجادت وصفها في الجزأين الثاني والثالث من مذكّراتها، بيد أنّ الجزء الأول كان مخصّصاً فقط لزنجبار وطفولتها في تلك الجزيرة الخضراء في كنف والدها السلطان سعيد البوسعيدي.
أصدرت أخيراً دار الجمل الأجزاء الثلاثة كاملة، وهذه المرّة بترجمة عُمانية عن الألمانية مباشرة، أنجزها زاهر الهنائي، الذي سبق أن ترجم الجزأين، الثاني والثالث، ولم يترجم الأول (والأساسي) إلّا هذا العام (2021)، لنكون بالتالي أمام ترجمة كاملة للأجزاء الثلاثة التي تركتها سالمة بنت السيد سعيد، أنجزها مترجم عُماني، استطاع أن يتلافى زلات وقعت فيها الترجمات السابقة، خصوصاً في ما يتعلق ببعض مسميات المناطق والألقاب العائلية.
كنا نظن أنّ أميلي رويته (الاسم الألماني لسالمة بنت السيد سعيد) لم تترك لنا سوى "مذكّرات أميرة عربية" المكتوب بالألمانية. الكتاب الذي تُرجم إلى عدة لغات، ونقلته من قبل إلى العربية، السورية سالمة صالح، وترجمه قبلها العراقي عبد المجيد القيسي، إذ أشرفت على ترجمته وأصدرته وزارة التراث والثقافة العُمانية في الثمانينيات، بوعي منها بأهمية هذا الكتاب. لكنّ ترجمة القيسي، كما ذكرت سالمة صالح في مقدمتها، انتقائية متحفّظة تُراعي كثيراً طبيعة القارئ ومستواه من دون أن ترتقي به. وبترجمة سالمة صالح يمكن أن يلاحظ القارئ الفرق، على الرغم من أنّ سالمة كانت أيضاً متحفظة وانتقائية، كما أوضح ذلك العُماني زاهر الهنائي في ترجمته الجديدة، وأشار إلى ذلك حتى في ترجمته السابقة الجزأين الثاني والثالث. 
ركّزت الأميرة سالمة في الجزء الأول على حياتها الأولى وطفولتها. ولدت عام 1844 في قصرٍ يطلق عليه بيت متوني، وهو أول قصر يبنيه والدها سعيد بن سلطان البوسعيدي في زنجبار الأفريقية (بنى السلاطين العمانيون اللاحقون قصوراً عديدة في زنجبار، من أشهرها "بيت العجائب"). وكانت سالمة تكنّ لأبيها حباً وتقديراً كبيريْن، حتى أنّها أطلقت اسم سعيد على ولدها الألماني. وإذا كانت المذكّرات في قسمها الأول تضعنا في محيط أفريقي شرقي، فإنّ اكتشاف أجزاء أخرى من مذكّراتها عُدَّ بمثابة كنز. وهناك أهمية توثيقية كبيرة للمذكّرات في قسمها الأوروبي (الجزء الثالث) لاشتمالها على تفاصيل دقيقة ومدهشة عن الحياة في أوروبا في القرن التاسع عشر. كما أنّ الجزء الثاني مخصّص لحياتها في حيفا وبيروت، اللتين ذهبت إليهما لزيارة ابنتها والمكوث معها.
ظلت سالمة محافظة حتى على لغتها العربية التي سعت إلى تدريسها لأبنائها. وقد تعلمت الألمانية وأتقنتها، وكتبت بها مذكّراتها، بيد أنّ رسائلها إلى أخيها حاكم زنجبار كانت بالعربية. ويمكن أن تعدّ المذكّرات، بأجزائها الثلاثة، دليلاً على رحلة عكسية، فقد شهد القرن التاسع عشر زيادة في الرحلات الاستكشافية الأوروبية إلى الشرق والوطن العربي، بغرض التمهيد لاستعماره، ثم الهيمنة المطلقة عليه، حسب إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" (1978). وفي هذا السياق، هناك عدد هائل من الرسائل والتقارير والدفاتر واليوميات، لكنّها كانت من طريق معاكس، وبما يشبه سباحةً ضد التيار؛ أميرة عُمانية من زنجبار، تشقّ، رفقة زوجها الألماني، رحلة إلى أوروبا لتقيم فيها، ولتنقل إلينا، بالتالي، في مذكّراتٍ ثلاثية الأجزاء، تفاصيل دقيقة من الحياة في ذلك القرن.

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A9-%D9%84%D9%85%D8%B0%D9%83%D9%91%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9

الاثنين، 1 نوفمبر 2021

عن نصوص عمانية مهاجرة وأهمية ترجمتها من قبل أهلها

  محمود الرحبي

 أكتوبر 25 2021

جريدة عمان


لا بد أن ثمة مؤلفات عمانية كتبت بغير اللغة العربية، ولكننا نلاحظ أنه حين يتم نقلها إلى العربية يواجه قارئها العماني بعض الأخطاء وخاصة في نقل مسميات المدن والقبائل، لذلك عادة ما يتم نقلها ولو بعد زمن إلى العربية مرة أخرى ولكن هذه المرة بواسطة مترجم عماني، تحت دافع تجنب وتقويم هذه الأخطاء.

قام أخيرا المترجم العماني زاهر الهنائي بترجمة الجزء الأول والأهم من كتاب "مذكرات أميرة عربية" تأليف سالمة بنت السيد سعيد، ويجب أن نذكر هنا بأن وزارة التراث القومي والثقافة في الثمانينات كان لديها وعي بأهمية هذا الكتاب حين أشرفت على ترجمته وكان مترجمه أول مرة حينذاك العراقي عبدالجليل القيسي وعن الإنجليزية وليس عن الألمانية، ولكنها ترجمة استأنسنا بها وقرأناها في وقتها بإعجاب.

ولكن الترجمات مع الوقت يمكن اكتشاف أنها تحتاج إلى إعادة. ليس فقط لأن الترجمة تشيخ كما قال أحد النقاد يوما، ولكن لأنها كذلك تحتاج إلى الدقة في ضبط أسماء الأعلام والأماكن. فبالإضافة إلى أكثر من ترجمة تعرضت لهذا العمل المهم، كان آخر هذه الترجمات هو ترجمة العراقية سالمة صالح، كتب مرة سليمان المعمري في الفيس بوك مبديا بعض الملاحظات المهمة على هذه الترجمة (رغم أهميتها وأهمية كاتبتها): أنا أتيح لي أن أقرأ الكتاب بترجمة سالمة صالح (الجمل ط٢ 2006). وقرأت نقد المترجمة العراقية للمترجم القيسي وهو صحيح. لكني آخذ على ترجمة سالمة صالح أمرين:

الأول أنها لم تسع للتأكد من نطق بعض الأسماء العمانية فنقلتها كما كتبتها الأميرة سالمة بالألمانية. مثلا أختها مثلى سمتها ترجمة صالح متلة. وشوانة سمتها شيوانة. وقبيلة الشقصي كتبتها الشاكسي. وقبيلة الحرث سمتها قبيلة "هورت".

والأمر الثاني هو عيب على دار الجمل أكثر مما هو على سالمة صالح. ألا وهو عدم وجود مدقق لغوي. كان النص مزعجا بكثرة أخطائه اللغوية والإملائية، لدرجة أنه مرت عبارة (يبدو لي بوجه عام أن الأوروبيون) دون أن يرف لها جفن المصحح اللغوي!

وهذه الأخطاء سبق وأن نبه لها المترجم الهنائي وذلك في مقدمة ترجمته للجزأين الثاني والثالث من هذه المذكرات. ولكن ها هو الآن يعيد ترجمة الجزء الأول ويصدره عن نفس الدار ( دار الجمل). هناك أهمية أن تترجم الأعمال العمانية التي أنجزت في الغرب وبلدان العالم بواسطة مترجمين عمانيين وذلك تحريا للدقة، ولا شك أن لدينا قائمة كبيرة من المترجمين العمانيين وهم يزدادون عاما بعد آخر، يمكن ذكر هنا -على سبيل المثال وليس الحصر- إنجازات أحمد المعيني في هذا السياق، الذي يمكن اعتباره – رغم شبابه- شيخ المترجمين العمانيين بسبب نشاطه المتوالي وتنوع ترجماته. كما أن ثمة مترجمين عمانيين يعيشون خارج عمان وربما في ذلك ثراء وتمكين لغوي ينتج من العيش في المحيط التفاعلي للغة الأصل. ولابد أن وجود حاضنة عمانية تجمع شتات هذه الترجمات وتعنى بالمترجم العماني ويقدم لها الدعم يجعل من هذا الشتات الموزع، استثمارا لخلق بؤرة حضارية لعمان نطل من خلالها ونسهم في رفد الوطن العربي وقراء العربية بالإنجازات المكتوبة في ربوع العالم. ويمكن في هذا السياق استحضار تجربة الكويت الرائدة والطويلة مع سلسة عالم المعرفة والمسرح العالمي وغيرها من مشاريع مهمة وعريقة يشرف عليها منذ عقود المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وتجربة الإمارات مع مشروع كلمة، والتجربة المصرية الرائدة مع المركز القومي للترجمة بالقاهرة.

في عمان نحتاج إلى كيان شبيه، ولا داعي للتذكير بالبعد الحضاري لبلدنا الحبيب، وتنوع روافده المعرفية في أكثر من سياق، ناهيك إلى أن عددا كبيرا من المترجمين العمانيين أصبحوا الآن قبلة للعديد من دور النشر طلبا لترجماتهم ليس فقد بسبب دقتها، إنما يمكن أن نلاحظ كذلك أن ترجمات العمانيين جاءتنا من لغات غير وسيطة وخاصة اللغة الإنجليزية. يمكن إضافة كذلك مترجمين عن الإسبانية والروسية والألمانية وكذلك السواحلية لغة شرق أفريقيا، التي ساهم العمانيون - أسلاف سالمة بنت السيد سعيد- في رفد معجمها بكلمات عربية عديدة.

الاثنين، 11 أكتوبر 2021

مذكرات أميرة عربية في نسختها العربية الجديدة

 :مذكرات أميرة عربية في نسختها العربية الجديدة في ٤٣٢ صفحة

- تفرّدت بترجمة ونشر نصّ المذكرات الذي صدر في برلين سنة ١٨٨٦ كاملا؛ فجميع الترجمات العربية الثلاث السابقة دون استثناء لم تنشر نصّ المذكرات كاملا.
- فيها تصحيحات للأخطاء الترجمية التي ظهرت في النسخ العربية للمذكرات.
- تحتوي على وثائق وصور تنشر لأول مرة.
- تحتوي على مقدمة مستفيضة عن كتاب مذكرات أميرة عربية وتاريخ طبعاته المختلفة.
- تجمع بين النص الأول للمذكرات المطبوع والنص بعد التعديل والإضافات والتصحيحات، التي أجرتها السيدة سالمة بخط اليد في النسخة الشخصية المحفوظة في المعهد الهولندي للشرق الأدنى NINO. فقد عزمت السيدة سالمة على إكمال مذكراتها وتعديلها بعد نشرها في برلين ١٨٨٦، ولكن لم يكتب لها النشر؛ فبقيت محفوظة فيما بقي من أشيائها الشخصية التي تركتها بعد وفاتها ١٩٢٤. وبصدور هذه النسخة العربية للمذكرات يكون مشروع السيدة سالمة في إعادة نشر مذكراتها قد اكتمل وأصبحت المذكرات بأكملها متاحة للقارئ العربي لأول مرة. إذ تحتوي هذه النسخة على نص مذكراتها الأولى بالإضافة إلى جميع التعديلات والإضافات والتصحيحات التي أجرتها عليه، ويعد هذا النص هو القسم الأول من مذكراتها، أما النص الآخر من مذكراتها والذي يتناول حياتها في ألمانيا فهو كتاب رسائل إلى الوطن، الذي نشر مترجما إلى العربية عام ٢٠١٦، والقسم الأخير من مذكراتها، والذي هو عبارة عن نصين قصيرين، يتناول النص الأول انطباعات السيدة سالمة عن العادات والتقاليد السورية؛ حيث أقامت في القدس ويافا وبيروت ما يقرب من ٢٥ سنة، أما النص الثاني فيتناول رحلتها الثانية إلى زنجبار سنة ١٨٨٨ بعد وفاة أخيها السلطان برغش. وقد نُشر هذان النصان أيضا بالعربية سنة ٢٠١٧ بعنوان مذكرات أميرة عربية (تكملة المذكرات). وقامت بنشر جميع هذه النصوص، بأقسامها الثلاثة، منشورات الجمل.



 

الخميس، 16 سبتمبر 2021

كنز أميرة زنجبار- محمود الرحبي: رسائل إلى الوطن

 شهد القرن التاسع عشر زيادة في الرحلات الاستكشافية الأوروبية إلى الشرق والوطن العربي، بغرض التمهيد لاستعماره ثم الهيمنة المطلقة عليه. وفي هذا السياق، أُلِّف عدد هائل من الرسائل والتقارير والدفاتر واليوميات، وكانت هناك، من طريق معاكسة، وبما يشبه سباحة ضد التيار، أميرة عُمانية من زنجبار، تشقّ، برفقة زوجها الألماني، رحلة إلى أوروبا لتقيم فيها، ولتنقل إلينا بالتالي، في مذكرات ثلاثية الأجزاء، تفاصيل دقيقة من الحياة في ذلك القرن.

وقد صدر في عام 2015 عن دار الجمل (بغداد، بيروت)، وبترجمة عن الألمانية، أنجزها زاهر الهنائي، الجزءان الثاني والثالث من مذكّرات سالمة بنت السيد سعيد. وإذا كان الثالث صغيراً (112 صفحة مليئة بالصور، المذكرات 35 صفحة)، ويتعلق بشذراتٍ من حياتها في بيروت ويافا، حين أقامت فترة في كنف ابنتها هناك، فإن الجزء الثاني هو الأهم، ليس نظراً إلى حجمه المتوسط (224 صفحة) فحسب، بل للتفاصيل الوافرة التي احتواها هذا الجزء من حياة مؤلفته.
كنا نظن أن أميلي رويته (الاسم الألماني لسالمة بنت السيد سعيد) لم تترك لنا سوى كتابها "مذكرات أميرة عربية" المكتوب بالألمانية، والذي ترجم إلى مختلف اللغات، ونقلته إلى العربية السورية سالمة صالح، وكان قد ترجمه قبل ذلك العراقي عبد المجيد القيسي. وقد ركّزت في هذا الجزء على حياتها الأولى وطفولتها، حيث ولدت عام 1844 في قصر يطلق عليه "بيت متوني"، وهو أول قصر يبنيه والدها سعيد بن سلطان البوسعيدي في زنجبار الأفريقية، وكانت تكنّ له حباً وتقديراً كبيريْن، حتى أنها أطلقت اسم سعيد على ولدها الألماني. وكان سعيد بن سلطان يدير مملكته الواسعة من أفريقيا، وتحديداً من الجزيرة الجميلة، زنجبار. فبالإضافة إلى "عُمان الكبرى" موطنه الأول، كانت تحت إدارته أجزاء من البرّ الأفريقي، إضافة إلى سواحل وموانئ من الهند وإيران. وقد وصفت سالمة، في مذكّراتها الأولى، تفاصيل دقيقة (عدّت وثيقةً نادرة) من حياة القصر الذي عاشت فيه، حين كان والدها على قيد الحياة.
وإذا كانت المذكّرات في قسمها الأول تضعنا في محيط أفريقي شرقي، فإن اكتشاف أجزاء أخرى من مذكّراتها عُدَّ بمثابة كنز، حيث إنها كانت، في الجزء الثاني مثلاً، تتحدّث بإسهاب عن حياتها في فرنسا ثم ألمانيا، وعن تفاصيل ما قاسته من نكبات، بعد أن مات زوجها نتيجة سقوطه من قطار، وعن تلك الأوقات العصيبة التي كانت تقضيها معه في المستشفى، إلى أن فارق الحياة، وما تكبدته من معاناة في أثناء مرضه. وفي ذلك أطلقت مقولتها التي تتساوق مع ما نشهده الآن في ظل جائحة كورونا: "إن المرء في أوروبا يولد ويَربى لكي يخضع ويستسلم لآلاف القيود التي تمسّ الحرية الشخصية وتجعل من الفرد مجرد رقم".
لم تعش سالمة مع زوجها فريدريك الذي تكنّ له حباً شديداً سوى أربع سنوات أنجبت فيها بنتين وولداً. وكان زوجها سندها الحقيقي في الحياة الأوروبية القاسية التي اضطرتها بعد موته، في بعض الفترات، إلى إسكات جوع أولادها بالخبز الأسود والحليب.
وهناك أهمية توثيقية كبيرة للمذكرات في قسمها الأوروبي، لاشتمالها على تفاصيل دقيقة ومدهشة من الحياة في أوروبا في القرن التاسع عشر. ومن غرائب ما يمكن أن يقرأ في هذه المذكرات، ذلك الفضول الاجتماعي الذي قد لا يتناسب مع مجتمعات الحداثة، وكان يتمتع به الإنسان الأوروبي في ذلك الزمن، فحين كانت سالمة، مثلاً، تنتقل مضطرة من مدينة إلى أخرى، كان سكانها يحتشدون لكي يتعرفوا إليها، وكانوا يدعونها إلى بيوتهم ويزورونها، وهو ما كان يضايقها كثيراً. وهي تصرّفات اجتماعية حميمية غدت نادرة حتى في مدننا وقرانا العربية. ففي مرّة اجتمع لاستقبالها في محطة القطار عشرات القرويين، حين كانت منتقلة من مدينة هامبورغ إلى قرية رودولشتات. وتضمنت المذكّرات أيضاً صوراً لعائلة سالمة في مختلف الأعمار إلى أن توفيت عام 1924 في ألمانيا، ودفنت مع كيس من رمل موطنها الأول أحضرته معها من زنجبار، تلك الجزيرة الخضراء التي طالما ذكّرتنا الحياة فيها، ثم فقدانها الفاجع، بنوستالجيا زمان الوصل الأندلسي.

الأحد، 5 سبتمبر 2021

ترجمة جديدة ورابعة لمذكرات أميرة عربية بالاعتماد على النسخة النادرة من المذكرات والمحفوظة بالمعهد الهولندي للشرق الأدنى NINO


ترجمة عربية جديدة (٢٠٢١) لمذكرات أميرة عربية أقدمها للقارئ العربي، ستصدر قريبا عن منشورات الجمل، تقدم إضافة جديدة على ما سبقتها من ترجمات، من حيث اعتمادها على نسخة نادرة شخصية من الطبعة الألمانية الأصلية الأولى للمذكرات، قد تعود إلى صاحبة المذكرات نفسها، لا تزال محفوظة في المعهد الهولندي للشرق الأدنى NINO، والتي تم فيها إضافة زيادات وتعليقات بخط اليد بلغة ألمانية وإسقاط كثير من المواضع التي ظهرت في طبعة برلين ١٨٨٦. كما تم تتبّع جميع الطبعات الألمانية الأولى للمذكرات التي صدرت في ١٨٨٦ ببرلين، وكذلك النسخ الحديثة التي نشرت بعد ذلك.
جمعت هذه الترجمة أيضا بين النص الأول للمذكرات والنص الآخر بعد التعديل بالاعتماد على هذه النسخة الهولندية، واستفادت كذلك من الترجمات السابقة، سواء الإنجليزية بمختلف طبعاتها، أو العربية بترجماتها الثلاث، في محاولة لنشر نص كامل ودقيق للمذكرات دون المساس بالنص الأصلي وتقديمه كوثيقة تاريخية.
ويأتي هذا العمل أيضا في إطار مشروع ترجمة جميع نصوص الأميرة سالمة بنت سعيد من لغتها الأصل الألمانية إلى اللغة العربية؛ فقد صدرت ترجمة كتابها الآخر (رسائل إلى الوطن) سنة ٢٠١٦، وتكملة مذكراتها ٢٠١٧، عن دار منشورات الجمل.

A new Arabic translation of the memoirs of an Arabian princess 2021

زاهر الهنائي


https://www.facebook.com/227071053971571/photos/a.227080483970628/6379511328727482