يستعمل القرآن الكريم صيغ الألفاظ استعمالا دقيقا في سياقاتها تتحقق به البلاغة، إذ هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومما يتجلى فيه ذلك صيغ الجمع، فكما هو معلوم أن صيغ الجمع في العربية متعددة، فمنها السالم ومنها المكسر، فالسالم ينقسم إلى قسمين مذكر ومؤنث، وجمع التكسير متعدد الصيغ، فللقلة منه صيغ كما للكثرة صيغ، وقد يجمع لفظ ما بصيغ متعددة، ولكن السياق هو الذي يوجه إلى استعمال الصيغة الأنسب، من بين هذه الصيغ المتعددة لكل لفظ تتعدد، صيغ جمعه خارج السياق، فالسياق كما قيل هو سيد المعنى، ولكن نظرا لضعف السليقة اللغوية والجهل بالمعاني الدقيقة لكل صيغة، ينشأ هذا الخلط في الاستعمال، وهناك أمر مهم قد ساعد على هذا الخلط وعدم التفريق بين صيغ الجموع وهو قلة العناية - فيما وصل إلينا من مؤلفات - بهذا الباب، الذي يحاول بيان الفروق الدلالية الدقيقة بين الصيغ، سواء كانت صيغ الجموع أو صيغ المصادر، أو الصيغ المختلفة للمبالغة أو الصفة المشبهة وغيرها من الصيغ، فالباحث في هذا الموضوع يجد مشقة وعنتا، فمن يقصد المعجمات يجد حشدا كبيرا لإيراد صيغ جمع للفظ معين، دون بيان للفروق المعنوية بين صيغة جمع وأخرى، انظر مثلا في مادة (ش ي خ) في الصحاح أو اللسان أو غيره، تجد أنه يورد عشرة جموع لكلمة شيخ: "والجمع أشياخ وشِيخان وشيوخ وشِيَخة وشِيْخة ومَشْيَخة ومِشْيَخة ومَشِيْخة ومَشْيُوخاء ومَشايِخ" (يُنظر لسان العرب)، هذا أمر المعجمات، وإذا أتيت إلى كتب الصرف وجدت الأمر نفسه يتكرر، إذ العناية بإيراد الأبنية دون تفريق بين صيغ الجمع، وتجد أحيانا أنه يُفرَّق بالقول جمع كثرة أو جمع قلة، ويكتفى بذلك، مع أنك تجد أن لفظا واحدا له جمعان للقلة أو أكثر، فلا يشار إلى الفرق بينها، على سبيل المثال نجد أن من جموع كلمة الشيخ، كما سبق الحديث عنها، أشياخ وشِيْخة، وكلاهما جمع قلة، فما الفرق بينهما في المعنى؟!، وإذا أتيت إلى كتب التفسير وجدت الأمر المكرور المعاد، فكلٌّ ينقل عن الآخر في ذكر الأبنية والصيغ المتعددة ولا التفاتة إلى أمر المعنى، وإذا استغرقت في البحث والتنقيب فقد تجد شذرات من هنا وهناك، وهذا حقا أمر عجيب يستحق أن نقف معه وقوفا طويلا للبحث والدراسة، نحاول به كشف هذا السر المعمى، الذي حدا هذه المؤلفاتِ على الغض عن تجلية الفروق المعنوية بين هذه الأبنية المختلفة ولا سيما ما جاء في القرآن الكريم، مع أنك تجد تلك العبارات من مثل: "القرآن معجز بلفظه" وغيرها، مما يجعلك تظن من أول وهلة أنك ستجد مادة واسعة في تبيين الفروق الدلالية بين صيغ الجمع مثلا، أو المصادر أو المبالغة أو الصفة المشبهة إلخ، أقول هذا الكلام عن معاناة شخصية منذ زمن، فقد شغلني كثيرا، وقد بلغ بي الأمر أني حينما يشكل علي شيء من هذه المسائل صرت شبه موقن أني لن أجد حلا وإجابة إن رجعت إلى المظان.
وإذا أجلنا الطرف في كتابات المعاصرين في هذا الأمر وجدنا الحال شبيها بحال السلف، فالخلف كانوا كسلفهم، نأوا عن البحث في هذا الموضوع، فلا نجد إلا نزرا يسيرا حاول فتح الباب دون أن يتمه، صحيح أنه عمل شاق يحتاج إلى جهد كبير، إلا أن ثمرته سيكون لها أعظم النفع والأثر، وستوضح قيمة هذه اللغة الثرة الثرية التي شرفها الله عز وجل بأن تكون وعاء لكتابه الكريم، فعسى أن تتضافر الجهود ويتحقق المأمول والمقصود.
كان لا بد من تسليط الضوء بهذه المقدمة، علها تضيء جانبا مهما من لغتنا الكريمة ينبغي أن نعطيه حيزا من اهتمامنا ونوليه شيئا من رعايتنا.
لفتني قبل مدة من الزمن حديث لصديق لي يناقش لفظ "رِعاء" في قوله تعالى: "حتى يُصْدرَ الرِّعاء" في سورة القصص، ومع أن توجيهه كان فيه نوع من التخليط والالتباس إلا أنه حقا قدح في ذهني شيئا جعلني أبحثه وأتقصى أمره، وكان منطلق البحث السؤال الآتي: "لماذا أتى التعبير هنا بلفظ (الرِّعاء)؟"، ولكي أوضح الأمر أكثر أقول إن كلمة (الرِّعاء) هي جمع (الرَّاعي)، وقد كانت في الأصل الافتراضي (الرِّعاي) على وزن فِعال كقائم وقِيام وصائم وصِيام وجائع وجِياع، ولكن قلبت الياء المتطرفة قبل ألف المد إلى همزة فصارت (الرِّعاء)، وكما تعلم أن كلمة (الراعي) لها في اللغة صيغ جمع متعددة، فهي تجمع على: الرُّعاة والرِّعاء ورُعيان والرّاعين، جاء في اللسان: "والجمع رُعاة مثل قاض وقُضاة، ورِعاء مثل جائع وجياع، ورُعيان مثل شابٍّ وشُبّان"، فلماذا خُصَّت صيغة (الرِّعاء) في هذا السياق بالاستعمال من بين صيغ الجمع الأخرى؟ مع أنه في موضع آخر جرى استعمال صيغة جمع أخرى هي الراعون، في قوله تعالى: "والذين هم لأماناتهم وعدهم راعون"، قبل الإجابة عن السؤال لا بد من توضيح الفروق المعنوية بين الجموع الأربعة في اللغة، حتى نفهم كيف تراعى الدقة في اختيار الكلمات القرآنية، لتنسجم مع السياق وتؤدي وظيفتها أتم أداء.
الرُّعاة جمع كثرة على وزن فُعَلة، والأصل فيه رُعَيَة، فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والتاء فيها تدعى تاء النقل، أي أن الصفة نقلت إلى الاسم، فأصبحت صيغة الجمع تدل على أن الرعاة هم جنس معروف، يطلق على مجموعة عرف عنها الرعي واشتهر، فليس كل من رعى قيل عنهم رعاة، كما ليس كل من قضى قيل عنهم قضاة، وكذلك ليس كل من رمى قيل عنهم رماة، وهكذا فالرعاة والقضاة اسم لهذا الصنف المعين (معاني الأبنية، السامرائي).
أما رُعيان فهو على وزن فُعلان، والأصل في هذه الصيغة أن تكون للأسماء، كرغيف ورُغفان وحَمَل وحُملان وذَكَر وذُكران، وهذه الصيغة قريبة من جمع الرُّعاة في دلالة الاسمية لا الصفة والحدث، إلا أنها في الأصل صيغة للأسماء، لا تطَّرد في الصفات، فحين يجمع راعٍ على رعيان لا ينظر فيه معنى حدث الرعي ومزاولته كثيرا، بقدر ما ينظر إليه أنه مجرد اسم، فيعامل معاملة الأسماء كرغيف وحَمَل وذكر، "وقالوا فُعلان في الصفة كما قالوا في الصفة التي ضارعت الاسم وهي إليه أقرب من الصفة إلى الاسم، وذلك راع ورعيان وشاب وشبان" (الكتاب، سيبويه). وأما الراعون فهو جمع مذكر سالم، اسم فاعل من رعى، وكثيرا ما يؤتى به لينوب عن الفعل، ويقوم مقامه كما في الآية الكريمة: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" بمعنى الفعل، أي يرعون أماناتهم وعهدهم، وعبر بالاسم بدل الفعل للدلالة على الثبوت، وقد يدل على القلة إن قصدت به الاسمية، ونأى عن الوصفية. وأما الرِّعاء فهو جمع كثرة على وزن فِعال، فهو جمع لكل من رعى، فلنا أن نقول لكل من قاموا بالرعي ولو مرة واحدة هم رِعاء، فهو جمع يشمل كل نوع من الرعي، وبالمناسبة وزن فِعال جمعا فاش في الأسماء والصفات، كجبل وجبال ورقبة ورقاب وطويل وطوال وعطشان وعطاش إلخ.
بعدما أخذنا نبذة عن معاني الجموع الأربعة لكلمة راعٍ، دعونا الآن نتطرق إلى سياق الآية الكريمة (23) من سورة القصص: "ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير"، عُبِّر عن الرعاء بداية بأمة من الناس، والأمة العدد الكثير، وعُبر عن اللتين تذودان بالمرأتين مع أنهما يرعيان ولكن بصفة طارئة لأن أباهما شيخ كبير لا يستطيع مزاولة الرعي، يبدو أن هذا المجتمع الذي تتحدث عنه الآية مجتمع يزاول الرعي عادة وليس حرفة، فليس هناك أناس معينون للرعي مشهورون به ومحترفون فيه، بل كل أفراده عموما تنطبق عليهم صفة الرعي حتى البنات منهم، فهو إذن مجتمع رعوي يمارس الرعي عادة وطبيعة، وتختلف مزاولته من شخص إلى آخر ومن بيت إلى آخر، وعُبِّر بالرعي هنا لحضوره في المشهد بدلالة السقي والإصدار والذود، ولكن السياق لم يكن يستدعي فعل الرعي كثيرا بقدر ما يركز على المرأتين وحالهما بدليل حذف متعلقات الرعي (السقي، الإصدار، الذود)، من هذا كله يتبين أن استعمال الرِّعاء هنا أنسب للسياق والمقام، بما تعطيه الصيغة من إفادة صفة الرعي العادي، الذي لا يتناسب مع جمع الرعاة، وإفادة عدم قصدية فعل الرعي بالذات بدلالة التعبير بالناس والمرأتين - بدل ما يُشتق من الرعي - وحذف متعلقاته، وهذا لا يتناسب مع الراعين الدال على الحدث، وكذلك احتماله جمعا للقلة غير المناسب لمدلول الأمة، وتبقى رُعيان غير صالحة من جهة أنها صيغة للأسماء، لا يركز فيها على صفة الرعي وهي مرادة في السياق بقدر معين.
أقف عند هذا الحد لضيق المقام، وأرجو أن يكون ما طرحته قد فتح بابا للباحثين والدارسين المهتمين للإدلاء بآرائهم وتحليلاتهم، ولَفَتَ الأنظار إلى هذا الموضوع المهم في لغتنا العربية الخالدة.