مدونة زاهر الهنائي
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس

السبت، 30 يونيو 2012

حتى يصدر الرعاء



يستعمل القرآن الكريم صيغ الألفاظ استعمالا دقيقا في سياقاتها تتحقق به البلاغة، إذ هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومما يتجلى فيه ذلك صيغ الجمع، فكما هو معلوم أن صيغ الجمع في العربية متعددة، فمنها السالم ومنها المكسر، فالسالم ينقسم إلى قسمين مذكر ومؤنث، وجمع التكسير متعدد الصيغ، فللقلة منه صيغ كما للكثرة صيغ، وقد يجمع لفظ ما بصيغ متعددة، ولكن السياق هو الذي يوجه إلى استعمال الصيغة الأنسب، من بين هذه الصيغ المتعددة لكل لفظ تتعدد، صيغ جمعه خارج السياق، فالسياق كما قيل هو سيد المعنى، ولكن نظرا لضعف السليقة اللغوية والجهل بالمعاني الدقيقة لكل صيغة، ينشأ هذا الخلط في الاستعمال، وهناك أمر مهم قد ساعد على هذا الخلط وعدم التفريق بين صيغ الجموع وهو قلة العناية - فيما وصل إلينا من مؤلفات - بهذا الباب، الذي يحاول بيان الفروق الدلالية الدقيقة بين الصيغ، سواء كانت صيغ الجموع أو صيغ المصادر، أو الصيغ المختلفة للمبالغة أو الصفة المشبهة وغيرها من الصيغ، فالباحث في هذا الموضوع يجد مشقة وعنتا، فمن يقصد المعجمات يجد حشدا كبيرا لإيراد صيغ جمع للفظ معين، دون بيان للفروق المعنوية بين صيغة جمع وأخرى، انظر مثلا في مادة (ش ي خ) في الصحاح أو اللسان أو غيره، تجد أنه يورد عشرة جموع لكلمة شيخ: "والجمع أشياخ وشِيخان وشيوخ وشِيَخة وشِيْخة ومَشْيَخة ومِشْيَخة ومَشِيْخة ومَشْيُوخاء ومَشايِخ" (يُنظر لسان العرب)، هذا أمر المعجمات، وإذا أتيت إلى كتب الصرف وجدت الأمر نفسه يتكرر، إذ العناية بإيراد الأبنية دون تفريق بين صيغ الجمع، وتجد أحيانا أنه يُفرَّق بالقول جمع كثرة أو جمع قلة، ويكتفى بذلك، مع أنك تجد أن لفظا واحدا له جمعان للقلة أو أكثر، فلا يشار إلى الفرق بينها، على سبيل المثال نجد أن من جموع كلمة الشيخ، كما سبق الحديث عنها، أشياخ وشِيْخة، وكلاهما جمع قلة، فما الفرق بينهما في المعنى؟!، وإذا أتيت إلى كتب التفسير وجدت الأمر المكرور المعاد، فكلٌّ ينقل عن الآخر في ذكر الأبنية والصيغ المتعددة ولا التفاتة إلى أمر المعنى، وإذا استغرقت في البحث والتنقيب فقد تجد شذرات من هنا وهناك، وهذا حقا أمر عجيب يستحق أن نقف معه وقوفا طويلا للبحث والدراسة، نحاول به كشف هذا السر المعمى، الذي حدا هذه المؤلفاتِ على الغض عن تجلية الفروق المعنوية بين هذه الأبنية المختلفة ولا سيما ما جاء في القرآن الكريم، مع أنك تجد تلك العبارات من مثل: "القرآن معجز بلفظه" وغيرها، مما يجعلك تظن من أول وهلة أنك ستجد مادة واسعة في تبيين الفروق الدلالية بين صيغ الجمع مثلا، أو المصادر أو المبالغة أو الصفة المشبهة إلخ، أقول هذا الكلام عن معاناة شخصية منذ زمن، فقد شغلني كثيرا، وقد بلغ بي الأمر أني حينما يشكل علي شيء من هذه المسائل صرت شبه موقن أني لن أجد حلا وإجابة إن رجعت إلى المظان.
وإذا أجلنا الطرف في كتابات المعاصرين في هذا الأمر وجدنا الحال شبيها بحال السلف، فالخلف كانوا كسلفهم، نأوا عن البحث في هذا الموضوع، فلا نجد إلا نزرا يسيرا حاول فتح الباب دون أن يتمه، صحيح أنه عمل شاق يحتاج إلى جهد كبير، إلا أن ثمرته سيكون لها أعظم النفع والأثر، وستوضح قيمة هذه اللغة الثرة الثرية التي شرفها الله عز وجل بأن تكون وعاء لكتابه الكريم، فعسى أن تتضافر الجهود ويتحقق المأمول والمقصود.
كان لا بد من تسليط الضوء بهذه المقدمة، علها تضيء جانبا مهما من لغتنا الكريمة ينبغي أن نعطيه حيزا من اهتمامنا ونوليه شيئا من رعايتنا.
لفتني قبل مدة من الزمن حديث لصديق لي يناقش لفظ "رِعاء" في قوله تعالى: "حتى يُصْدرَ الرِّعاء" في سورة القصص، ومع أن توجيهه كان فيه نوع من التخليط والالتباس إلا أنه حقا قدح في ذهني شيئا جعلني أبحثه وأتقصى أمره، وكان منطلق البحث السؤال الآتي: "لماذا أتى التعبير هنا بلفظ (الرِّعاء)؟"، ولكي أوضح الأمر أكثر أقول إن كلمة (الرِّعاء) هي جمع (الرَّاعي)، وقد كانت في الأصل الافتراضي (الرِّعاي) على وزن فِعال كقائم وقِيام وصائم وصِيام وجائع وجِياع، ولكن قلبت الياء المتطرفة قبل ألف المد إلى همزة فصارت (الرِّعاء)، وكما تعلم أن كلمة (الراعي) لها في اللغة صيغ جمع متعددة، فهي تجمع على: الرُّعاة والرِّعاء ورُعيان والرّاعين، جاء في اللسان: "والجمع رُعاة مثل قاض وقُضاة، ورِعاء مثل جائع وجياع، ورُعيان مثل شابٍّ وشُبّان"، فلماذا خُصَّت صيغة (الرِّعاء) في هذا السياق بالاستعمال من بين صيغ الجمع الأخرى؟ مع أنه في موضع آخر جرى استعمال صيغة جمع أخرى هي الراعون، في قوله تعالى: "والذين هم لأماناتهم وعدهم راعون"، قبل الإجابة عن السؤال لا بد من توضيح الفروق المعنوية بين الجموع الأربعة في اللغة، حتى نفهم كيف تراعى الدقة في اختيار الكلمات القرآنية، لتنسجم مع السياق وتؤدي وظيفتها أتم أداء.
الرُّعاة جمع كثرة على وزن فُعَلة، والأصل فيه رُعَيَة، فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والتاء فيها تدعى تاء النقل، أي أن الصفة نقلت إلى الاسم، فأصبحت صيغة الجمع تدل على أن الرعاة هم جنس معروف، يطلق على مجموعة عرف عنها الرعي واشتهر، فليس كل من رعى قيل عنهم رعاة، كما ليس كل من قضى قيل عنهم قضاة، وكذلك ليس كل من رمى قيل عنهم رماة، وهكذا فالرعاة والقضاة اسم لهذا الصنف المعين (معاني الأبنية، السامرائي).
أما رُعيان فهو على وزن فُعلان، والأصل في هذه الصيغة أن تكون للأسماء، كرغيف ورُغفان وحَمَل وحُملان وذَكَر وذُكران، وهذه الصيغة قريبة من جمع الرُّعاة في دلالة الاسمية لا الصفة والحدث، إلا أنها في الأصل صيغة للأسماء، لا تطَّرد في الصفات، فحين يجمع راعٍ على رعيان لا ينظر فيه معنى حدث الرعي ومزاولته كثيرا، بقدر ما ينظر إليه أنه مجرد اسم، فيعامل معاملة الأسماء كرغيف وحَمَل وذكر، "وقالوا فُعلان في الصفة كما قالوا في الصفة التي ضارعت الاسم وهي إليه أقرب من الصفة إلى الاسم، وذلك راع ورعيان وشاب وشبان" (الكتاب، سيبويه). وأما الراعون فهو جمع مذكر سالم، اسم فاعل من رعى، وكثيرا ما يؤتى به لينوب عن الفعل، ويقوم مقامه كما في الآية الكريمة: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" بمعنى الفعل، أي يرعون أماناتهم وعهدهم، وعبر بالاسم بدل الفعل للدلالة على الثبوت، وقد يدل على القلة إن قصدت به الاسمية، ونأى عن الوصفية. وأما الرِّعاء فهو جمع كثرة على وزن فِعال، فهو جمع لكل من رعى، فلنا أن نقول لكل من قاموا بالرعي ولو مرة واحدة هم رِعاء، فهو جمع يشمل كل نوع من الرعي، وبالمناسبة وزن فِعال جمعا فاش في الأسماء والصفات، كجبل وجبال ورقبة ورقاب وطويل وطوال وعطشان وعطاش إلخ.
بعدما أخذنا نبذة عن معاني الجموع الأربعة لكلمة راعٍ، دعونا الآن نتطرق إلى سياق الآية الكريمة (23) من سورة القصص: "ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير"، عُبِّر عن الرعاء بداية بأمة من الناس، والأمة العدد الكثير، وعُبر عن اللتين تذودان بالمرأتين مع أنهما يرعيان ولكن بصفة طارئة لأن أباهما شيخ كبير لا يستطيع مزاولة الرعي، يبدو أن هذا المجتمع الذي تتحدث عنه الآية مجتمع يزاول الرعي عادة وليس حرفة، فليس هناك أناس معينون للرعي مشهورون به ومحترفون فيه، بل كل أفراده عموما تنطبق عليهم صفة الرعي حتى البنات منهم، فهو إذن مجتمع رعوي يمارس الرعي عادة وطبيعة، وتختلف مزاولته من شخص إلى آخر ومن بيت إلى آخر، وعُبِّر بالرعي هنا لحضوره في المشهد بدلالة السقي والإصدار والذود، ولكن السياق لم يكن يستدعي فعل الرعي كثيرا بقدر ما يركز على المرأتين وحالهما بدليل حذف متعلقات الرعي (السقي، الإصدار، الذود)، من هذا كله يتبين أن استعمال الرِّعاء هنا أنسب للسياق والمقام، بما تعطيه الصيغة من إفادة صفة الرعي العادي، الذي لا يتناسب مع جمع الرعاة، وإفادة عدم قصدية فعل الرعي بالذات بدلالة التعبير بالناس والمرأتين - بدل ما يُشتق من الرعي - وحذف متعلقاته، وهذا لا يتناسب مع الراعين الدال على الحدث، وكذلك احتماله جمعا للقلة غير المناسب لمدلول الأمة، وتبقى رُعيان غير صالحة من جهة أنها صيغة للأسماء، لا يركز فيها على صفة الرعي وهي مرادة في السياق بقدر معين.
أقف عند هذا الحد لضيق المقام، وأرجو أن يكون ما طرحته قد فتح بابا للباحثين والدارسين المهتمين للإدلاء بآرائهم وتحليلاتهم، ولَفَتَ الأنظار إلى هذا الموضوع المهم في لغتنا العربية الخالدة.

السبت، 17 مارس 2012

فاسألوا أهل الذكر

أكتب لكم هنا السؤالين اللذين وجهتهما للشيخ الخليلي حول الفعل أثرى ولفظة (مطار) وجوابه عليهما، وقد أرفقت ذلك في التدوينة السابقة...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد:
فقد تفضلتم ــ سماحتكم ــ وقلتم في محاضرتكم التي تحدثتم فيها عن الأخطاء الشائعة في العربية إن استعمال أثرى متعديا خطأ، وبينتم أن الهمزة فيه ليست للتعدية وإنما هي همزة الصيرورة والدخول في الشيء وفاقا لما ورد عن العرب في استعمالهم، لكن أقول متعلما أليس من وجه أن تكون الهمزة للتعدية في استعمال، وللصيرورة في استعمال آخر، فقد جاء في المعجمات العربية: ثري الرجل أي كثر ماله فعلا ثلاثيا قاصرا، فما الضير أن نستعمل همزة التعدية لتعدية الفعل الثلاثي هذا قياسا على الأفعال الثلاثية الأخرى، أو بعبارة أخرى ما السبيل إلى تعدية الفعل ثري؟
وقد ذكرتم ــ سماحتكم ــ في موضع آخر من المحاضرة أن استعمال (مطار) بهذه الصيغة اسما للمكان من الأخطاء الشائعة المعاصرة، بيد أننا إذا رجعنا إلى لسان العرب أو غيره من المعجمات وجدنا قوله: "والمطار موضع الطيران"، فما راي سماحة الشيخ في ذلك خدمة للعربية وعاء القرآن الكريم؟
الجواب: الهمزة في أثرى كالهمزة في أيسر وأعسر وأمول وأمشى أي صار ذا يسر أو ذا عسر أو ذا مال أو ذا ماشية فلا يحمل شيء منها على التعدية لأن التعدية في مواد الأفعال لها صيغ تدل عليها والهمزة وإن كانت للتعدية غالبا إلا أنها تكون دالة على التعدية دائما ولربما كان الفعل المحدد دالا على التعدية فإن دخلت عليه الهمزة دل على غيرها من المعاني كلبن فإنك إن قلت لَبَنتُ فلانا كان بمعنى أعطيته لبنا وإن قلت ألبن كان لازما بمعنى صار ذا لبن و قد يكون الفعل متعديا مجرد أو مزيد بالهمزة وكل منهما مستقلا بالدلالة على معنى غير المعنى الذي يدل عليه الآخر ولا تكون الهمزة في ذلك للتعدية و إنما هي لمعنى آخر وذلك كقذيت العين بمعنى جعلت فيها القذى وأقذيتها أي أزلت منها القذى وحمأت البئر بمعنى ألقيت فيها الحمأ وأحمأتها بمعنى أزلت منها الحمأ فالهمزة في ذلك للإزالة ومثل ذلك قتلت الرجلَ وأقتلته فكل منهما متعد يفيد معنى مستقلا فقتله بمعنى أوقع به القتل وأقتل بمعنى عرضه للقتل سواء وقع عليه القتل أو لم يقع وكذلك باع المتاع بمعنى نقل ملكه إلى غيره بالثمن وأباعه بمعنى عرضه للبيع، وقد تكون زيادة الهمزة للدلالة على الدخول في الزمان كأصبح بمعنى دخل في وقت الصباح وأمسى بمعنى دخل في
وقت المساء وأضحى بمعنى دخل في وقت الضحى وتكون أيضا للدلالة على قصد المكان كأيمن بمعنى قصد اليمن وأشأم بمعنى قصد الشام وأعرق بمعنى قصد العراق وأعمن بمعنى قصد عمان، فأنت ترى أن وزن أفعل يأتي لمعاني متعددة لا يخلط بعضها ببعض وقد جمع هذه المعاني المحقق الخليلي رحمه الله تعالى في "مقاليد التصريف" حيث قال:
عد بأفعل غالبا عز من أذل* ولوجوده عليها قد جعل
ومشبه أسرى ومن مكان * قصد وللدخول في زمان
ولئن كان كل فعل من هذه الأفعال له دلالته الخاصة التي يستمدها من زيادة الهمزة ولا تستوي جميعًا وإن اشتركت في وزن أفعل فإنه من الواضح أنه لا يجوز أن تكون الهمزة في أثرى للتعدية كما لا يجوز ذلك في أيسر وأعسر وأمشى وأمول فلا يكون شيء منها متعديا و بإمكانك أن ترجع إلى معاجم اللغة الأصيلة كالعين للخليل والصحاح للجوهري والجمهرة لابن دريد والتهذيب للأزهري واللسان لابن منظور والقاموس للفيروز أبادي وشرحه للزبيدي فإن وجدت أن أثرى يتعدى فأتني به.
وأما المطار فإني أشكرك على ما جئتني به من اللسان وهو ـ لا ريب أنه خارج عن القياس فإن القياس فيما كان مصوغا من الثلاثيات من المصادر الميمية والظروف الميمية أن يكون على وزن مَفعَل بفتح العين سواءً كان مصدراً أو ظرفا كالمقعَد والملبَس والمدخَل والمخَرج إلا إن كان مضارعه على وزن يفعِل ـ بكسر العين ـ فإن مصدره بفتح العين وظرفه بكسرها كالمجلس والمقصد والمعطف والمضرب فهي تفتح في المصدر وتكسر في الظرف وإن كان الفعل واوي الفاء ومضارعه على وزن يفعِل كولد يولد ووزن يزن ووقد يقد ووعظ يعظ فإن ظرفه ومصدره جميعا يكونان على وزن مفعِل بالكسر كمولد وموزن وموعد وموقد وإن كان واوي الفاء ولكنه مفتوح العين في المضارع لأن لامه حرف حلق كوضع يضع ومثله يدَعُ أو كان في مضارعه وجهان فتح العين وكسرها بالسماع كوجَل يَجل ويوجل ففي ظرفه ومصدره خلاف منهم من راعى الواو فيه ومنهم من راعَ أن جاء مضارعه غير مكسور العين، وإن كان معتل العين بالياء فلا يكون مضارعه إلا على يفعِل كسار يسير وصار يصير وبان يبين وعاش يعيش وفي مصدره الميمي خلاف قيل هو كظرفه الميمي على وزن مفعِل بكسر العين كمصير ومجيء ومسير ومبيت ومقيل ومصيف وقيل بل حكمه حكم الصحيح وهو الذي نسبه المحقق الخليلي رحمة الله تعالى إلى الشهرة وذلك في قوله
للظرف والمصدر صيغ مفعَل* من الثلاثيات إلا يفعِل
ذا مفعل للظرف منه حققا * والكسر في ذي الواو فاء مطلقا
والخلف فيه كموضع وموجل * وأفتح فعل اللام كيفما اجتلى
وما حوى الياء عليه فهو كما * قد صح في الأشهر عند العلماء
وبهذا تدرك أن الأصل في طار يطير أن يكون إما مصدره وظرفه على مطير أو أن يكون مصدره على مطار وظرفه على مطير أما مجيء ظرفه على مطار فهو خارج عن القياس وإنما الاعتماد فيه على السماع وقد وجدته في اللسان كما ذكرت ولم أتمكن من مراجعة غيره من المعاجم وعلى كلٍّ إني أشكرك على ملاحظتك وجزاك الله خيرا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
19/رجب/1429هـ

الخميس، 15 مارس 2012

إضاءة

نشر هذا المقال في "شرفات" ملحق جريدة عمان، بتاريخ 18أكتوبر 2011م
نشر في ملحق شرفات مقال يبحث في قضية تسمية "بهلى" -إحدى ولايات السلطنة المعروفة- منذ وقت لا بأس به، وقد كنت قرأت المقال وقت نشره في الملحق، فكانت لي وقفات، ووددت يومها أن يشاركني في الوقوف عليها قراء الملحق، لتكون إكمالا لما ورد في المقال الذي أعده بداية جادة للشروع في العمل على مدونة أسماء الأمكنة والبلدان العمانية، إذ البحث في هذه القضية –من وجهة نظري- غاية في الأهمية، لها أبعاد عدة لتأسيس مرجعية لأسماء الأمكنة والبلدان العمانية تجليةً لأبعاد تأريخية واجتماعية ولغوية، نعم لقد كانت هناك محاولة في هذا المضمار من خلال موسوعة أرض عمان التي حاولت التأصيل لأسماء الأمكنة والبلدان، ولكن العمل يحتاج إلى جهد مستمر ومتصل بغية الظفر بخيط من الحقائق فكيف بالحقائق نفسها، ولا تكفي الجهود الفردية بل لابد من جهد مؤسسي يضطلع بهذه المهمة، وهناك محاولة أخرى متواضعة قبل هذه المحاولة هي مؤلَف "إزاحة الأغيان عن لغة أهل عمان"، حاول فيه مؤلفه في الجزء الأخير منه تأصيل بعض التسميات، ولكن تبقى هناك الحلقة الناقصة دوما، وهي البعد التأريخي، فالبعد اللغوي بمعزل عن البعد التأريخي لن يؤدي إلى الغاية المرجوة، فهو استقراء ناقص قد يحيد بنا عن الحقيقة والصواب.وهناك أمر مهم ملحوظ في المحاولات السابقة، فهي تعتد بالبعد اللغوي ولكن اعتدادها به يعتريه النقص من جهة اعتماده على اللغة العربية فقط، وبهذا يذهب التأصيل مذهبا قد يجافى فيه الصواب، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بمكان تعاقبت فيه الحضارات من مختلف الأجناس، وتعددت فيه الثقافات واللغات، فحري بنا أن نعيد النظر في المنهج بغية مقاربة الصواب وتلمس الحقائق.بحث المقال وجهتين مختلفتين، تتعلق الوجهة الأولى بقضية رسم الكلمة، أما الوجهة الأخرى فتتعلق بلفظها، والرسم كما نعلم ليس هو اللفظ، وكثير من الناس التبست في أذهانهم هذه القضية نظرا لارتباط الرسم باللفظ وملازمته إياه، وكأنهم لم يدركوا أن الرسم عند قوم ما يأتي في الأصل بعد اللفظ، فهم يبحثون عن تصوير له يتعارفون عليه، ولذلك تتعدد أحيانا رسوم الكلمة الواحدة وفق عرف أصحابها، بل قد يبقى الرسم نفسه لا يتغير بعد اعتراء انحراف صوتي في الكلمة، وهذا يتجلى واضحا في الرسم العثماني في نحو كلمة "الصلوة" و"الزكوة" وغيرها مما هو في الرسم العثماني. صحيح أن الرسم في البدء اجتلب ليمثل اللفظ تمثيلا دقيقا ولكنه قد لا يواكب بعد ذلك تطور اللفظ السريع فيبقى على صورته الأولى، وهذا لا يقتصر على لغة دون أخرى، وقد تكون المحافظة على الأصل لاعتبارات اشتقاقية أو تاريخية أو صوتية أو غيرها من الاعتبارات التي ألجأت إلى هذه المحافظة. وقد تظل إشكالية الرسم شاخصة على مر الأيام لعلاقتها بتلك الأبعاد، فالتأريخ حفظ لنا قصصا من اضطراب الرسم العربي إلى وقت متأخر بل حتى يومنا هذا، واجتهد علماء الرسم في تقعيد القواعد ووضع الضوابط، فوضعوا مؤلفات تعنى بالكتابة وطرائقها كابن قتيبة في كتابه المشهور أدب الكاتب وغيره من العلماء.أتى طرق موضوع الرسم من جهته اللغوية في المقال طرقا يحتاج إلى وقفة عنده قد بينت طرفا منها فيما سبق، فالقول بأنه "ليس كل الرسم قياسيا كما أنه ليس كل اللغة قياسية" عموم يحتاج إلى تفصيل وتبيين، فقد أوضحت فيما سبق علاقة اللفظ بالرسم، وأنه في ظل غياب القاعدة يحدث الاضطراب، أما بعد تشكل القواعد ووضع الضوابط فإن مخالفتها يعد تجاوزا، ولنضرب على ذلك مثالا: هل يصح في هذا الوقت كتابة الصلاة والزكاة والأقصى وغيرها من الكلمات مثلما وردت في الرسم العثماني (الصلوة، الزكوة، الأقصا)؟ مع أن أهل ذاك الزمن قد ألفوا تلك الصور من الكتابة وتعارفوا عليها، ولكن بعد أن تم وضع القواعد واتضح مبدأ رسم الكلمات عددنا ذلك من الخطأ، وقد نأى أهل الرسم عن وصف ما جرى عليه نظام الرسم العثماني بالخطأ تنزيها للقرآن فقالوا عبارتهم المشهورة: "خطان لا يقاس عليهما خط المصحف وخط العروضي"، واستمراء الناس على كتابة كلمة ما على غير وفق القاعدة الضابطة ليس مدعاة إلى الأخذ بطريقة كتابتها وتركها كما استعملوها من غير إحداث تصحيح عليها وفق ما جرت عليه القاعدة.ولن تعدم أن تجد في كثير من المخطوطات تجاوزا للقاعدة بعد استقرارها، فهل كل ما ورد في المخطوطات من كلمات تكرر رسمها بما يخالف القاعدة وجرى استعمالها بصفة ثابتة فيها يُقبل ولا يُرد، لا بل يُجعل هو معتمدا يؤخذ به؟ فانظر مثلا إلى كلمة "الجنى" يأتي رسمها كثيرا "الجنا" على غير ما جرت عليه القاعدة، وهذا أمر طبيعي؛ لأن رسم صوت الألف ياء هو غير الأصل، فالأصل رسم صوت الألف بصورة الألف "ا"، وهذا ما درج عليه الناس قبل استقرار القواعد، ولكن المقعدين وضعوا قاعدة الأصل في الصوت، فما كان من هذا الباب أصله الياء كتبوه على صورة الياء وما كان أصله الواو كتبوه على صورة الألف"ا"، وسنجد كثيرا مثل هذا.هذا ما يتعلق بالرسم، أما ما يتعلق باللفظ فإن البحث عن اشتقاقه مرتبط بالأصول التي تُكَوّن الكلمة وهي التي يجمعها الجذر اللغوي، فالانطلاق في الرد على من زعم أن اللفظ مشتق من البُهل بضم الباء بتلك الطريقة التي جاءت في المقال، هو بحاجة إلى توضيح يزيل تلك الأحكام التي تبتعد عن طبيعة اللغة، ولتقريب الفهم دعونا نناقش ما ورد: ادّعى بعضهم أن اللفظ مشتق من البُهل الذي معناه الجامع للخيرات، نقف ابتداء عند هذه العبارة فلا نتجاوزها حتى نفند دعواها، فنقول لا يستقيم أن نقول البُهل هو الجامع للخيرات فطرفا التركيب لا ينسجمان، الطرف الأول "البهل" غير عاقل جامد، والطرف الآخر صفة لعاقل مشتق، فلا يستقيم إذن الإخبار عن غير العاقل بصفة العاقل، ثم لنا أن ننتقل بعد ذلك إلى نفي وجود لفظ البُهل في المعجمات. هذا أمر والأمر الآخر هو عبارة وردت في المقال آثرت عرضها للمناقشة هي: "هذا معظم ما ورد في اشتقاق "البهل"، ورغم ذلك لم تكن بضم الباء، وإنما بفتحها، فلو سلمنا أن أصلها مشتق من ذلك فهي بالفتح وليس بالضم؛ أي "بَهلا". هذا أمر غير مسلم به يناقض ما عليه اللغة، فمن قال إن ما وزنه فَعلى بفتح الفاء لا بد أن يكون مشتقا من الفَعل بفتح الفاء؟ فنحن نشتق جَوعى من الجُوع،، ونشتق ثَكلى من الثُكل وقس على ذلك كثيرا من ألفاظ اللغة، وبالعكس فإننا نشتق فُضلى من الفَضل، فليس هناك إذن مانع نظري من اشتقاق بَهلى بفتح الباء من البُهل بضم الباء.ثم إن هناك أمرا ينبغي الالتفات إليه ومناقشته، فقد تردد في غير موضع من المقال ما يشي بأن تأثير المدرسة السالمية كان له دور في توجيه اللفظ ورسمه، حيث كان انطلاقها من اللغة البيانية التي تحاول رد الكلمات إلى الصيغ العربية، وقد يُستشف من ذلك أن بَهلى بفتح الباء ليست من صيغ اللغة، وأن بُهلى بضم الباء هي من صيغ اللغة، والأمر ليس كذلك، فكلتا الصيغتين من صميم اللغة، فلو سلمنا أن الشيخ السالمي عندما ذكر في جوهر النظام في باب الضوابط: بُهلى بضم الباء ... قد تأثر باللغة، فلماذا اختار صيغة دون أخرى مع أن كلتا الصيغتين من اللغة؟ هذا من جانب، والجانب الآخر ينبغي الالتفات إلى كل البلدان التي ذكرها في الباب لا إلى بهلى فقط، فقد ذكر أربع عشرة بلدة، فكان من المنهج السليم أن ننظر إليها جميعها، فعلى سبيل المثال: "منح"، ذكرها بفتح الميم والنون مع أن منطق اللغة يقول: مَنْح بفتح الميم وسكون النون.واستند المقال أيضا إلى أن رسم اللفظ في التحفة بالألف دليل على رأي الشيخ السالمي ومذهبه، وليس هناك دليل صريح على أن الشيخ يرى رسم اللفظ بالألف، فالشيخ السالمي كان أعمى لا يرى، ووروده في كتابه ليس حجة قاطعة على ذلك، أضف إلى ذلك أنه جاء في جوهر النظام الذي هو كتاب الشيخ نفسه مرسوما بالألف الطويلة "بهلا".بل يزاد على ذلك أن الأبيات ربما –وهذا ما لم أتوثق منه- ليست للشيخ السالمي بل لصاحب الأصل الشيخ سالم بن سعيد الصائغي (ق:13هـ) صاحب أرجوزة "دلالة الحيران الجامعة لأحكام الأديان" التي كانت الأصل الذي بنى عليه الشيخ السالمي جوهره، وقد نتلمس للشيخ السالمي في موافقته وإقراره أو رأيه -إن كانت الأبيات له- وجها لذلك فيما نقله الشعر الذي ذكر فيه اللفظ المروي والمتناقل مشافهة، فقد جاء اللفظ في أبيات عدة من الشعر العماني، وقد تلقاه شيخنا وأخذه عمن قبله من الثقات، وليس هو تأثرا بمنطق اللغة إن جاز لنا القول.واعتمد المقال أيضا على القول بالفتح بما أورده من مقاطع رجزية بدا عليها الارتباك نُقلت من كتاب الأنساب للعوتبي وهي:امض ودع جبال بهلاتركت أهلا وأصبت أهلاحتى يحل الحمى أرضا سهلافعَدَّ إتيان كلمات القافية على "أهلا"، و"سهلا" دليلا على حتمية أن يكون اللفظ بفتح الباء، وهذا أمر غير مسلم به في منطق علم العروض، وهو لزوم ما لا يلزم، فليس شرطا أن تكون الباء مفتوحة هنا، ومن ثَمّ لا يمكن الاستدلال به. وفي المقطع الثالث خلل عروضي ربما نقل خطأ من مصدره، وكذلك في المقطع الأول؛ إذ ليس هو من وزن المقطع الثاني، فيبدو أن المقاطع يلفها اضطراب يؤدي إلى ضعفها.من كل ذلك لا يعني هنا أنني أقول بأن اللفظ بفتح الباء خطأ، ولكن رأيت أن الاستدلالات بحاجة إلى إعادة نظر قبل الحكم، وعلينا التريث وإعطاء الموضوع وقتا أكبر من البحث والنظر في كل أبعاده، وقد كان المقال فاتحة أضاءت لنا كثيرا من النقاط، وفتحت آفاقا رحبة للبحث في هذا الباب وتوسيعه.

زَواجٌ أم زِواجٌ ؟!

ربما يسأل سائل عن لفظة (زواج) أبكسر الزاي هي أم بفتحها؟
الوجهان جائزان لغةً، كما جاء في المصباح المنير وتاج العروس، إذ يقول الفيومي(في حدود 770هـ) في مصباحه في مادة (زوج): "والزواج أيضا بالفتح يجعل اسما من (زَوَّج) مثل سلّم سلاما وكلّم كلاما ويجوز الكسر ذهابا إلى أنه من باب المفاعلة لأنه لا يكون إلا من اثنين وقول الفقهاء ( زوجتُه ) منها لا وجه له إلا على قول من يرى زيادتها في الواجب أو يجعل الأصل (زوجته) بها ثم أقيم حرف مقام حرف على مذهب من يرى ذلك وفي نسخة من التهذيب: (زوّجْتُ) المرأةَ الرجلَ ولا يقال: (زوّجْتها) منه" انتهى كلام صاحب المصباح، وجاء في تاج العروس للزَّبيدي (1205هـ): "ومما يستدرك عليه( أي على الفِيروزأبادي(817هـ) في القاموس المحيط): الزَّواج، بالفتح ، من التزويج: كالسلام من التسليم. والكسر فيه لغة، كالنكاح وزنا ومعنى، وحملوه على المفاعلة، أشار إليه الفيومي."انتهى كلام صاحب تاج العروس.
وقد يسأل سائل لماذا لم تعل الواو وتقلب ياء في زِواج على لغة الكسر فما قبلها مكسور وبعدها ألف والجواب عن هذا: لم تعل لأن الواو قد سلمت في الفعل الماضي ولم تعل. فالفعل الماضي هو (زاوَج) فالواو سليمة غير معلة ولذا لم تعل في (زِواج) ومثاله ( لِواذ) لم تعل واوه لأن ماضيه (لاوَذَ) يقول الله تعالى:" قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لِواذا... " النور63 يقول المبرد(285هـ) في المُقتضَب: " ولو كان المصدر لـ " قاومت " لصح فقلت: قاومته قِواما، ولاوذته لِواذا. وكان اسما غير مصدر نحو: خِوان. " انتهى كلام المبرد.
ومما دعاني إلى ذكر هذا الأمر ما حدث في ندوة الفقه الإسلامي المنعقدة بجامعة السلطان قابوس (22-26 شعبان 1408هـ / 9-13 إبريل 1988م)، إذ قدم الأستاذ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي بحثا بعنوان: مشكلات الزواج في العصر الحديث وعلاجها في الفقه الإسلامي. وابتدأه بقوله:"إن هذا البحث المتواضع الذي أقدمه عنوانه مشكلات الزِّواج في العصر الحديث وعلاجها في الفقه الإسلامي، وقلت: الزِّواج بالكسر، ولم أقل الزًّواج كما هو سائد، وهو خطأ شائع.لأن (الزِّواج) مصدر (زاوَج) ... ويقول ابن مالك:
1) لِفاعَلَ الفِعـالُ والمُفاعَلَـه وغير ما مر السماع عاد له (في ألفيته)
2) لفاعَلَ اجعلْ فِعالاً أو مفاعلةً وفعَّل اجعلْ له التفعيلَ حيثُ خلا (في لاميته) "
انتهى كلام الدكتور، ثم عقب على ذلك الشيخ المستشار حسن الحفناوي من الإمارات العربية المتحدة قائلا: "وألاحظ قبل أن أدخل في دقائق معدودة حسب وقتي، على كلمة زِواج – وزَواج، فبورك في الباحث الكريم: نَعَم زواج هي مصدر من زاوج والمصدر من فاعَلَ: مُفاعلَة أو فِعال. ولكن العرب كرهوا أن يجمعوا كسرة بواو، أو أن تتقدم الواو كسرة ولذلك جاء مصدر صام على صيام، كان من المفروض أن يكون صِوِاما، لأن الفعل صام يصوم وليس صام يصيم ولكن هنا تجتمع الكسرة بالواو فيثقل النطق فيهما، فأبدلوا الواو ياء فأصبحت صياما وهم في ذلك إما أن يبدلوا الواو ياء، وإما أن يبدلوا الكسرة فتحة، لتتجانس الواو مع ما قبلها من الحركة" انتهى كلام الشيخ المستشار.
وقد علمتَ أن زِواجا وزَواجا جائزان، فَتَزَّوجْ زِواجا أو زَواجا، واللهُ يُبارك!

قصة بيت!


بيت كثيرا ما تردده ألسنتنا، وطالما استشهدنا به، عرفناه كثيرا، لكن لو سألنا عن قائله لأعنتنا الوصول إليه، وهذا حال كثير من الأبيات التي
تداولها الناس فيما بينهم ورددتها ألسنتهم دون أن يعرفوا قائلها..
البيت الذي نحن بصدد الحديث عنه هو: (من البسيط)
لا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ * لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا
كنت قد بحثت عن قائله مدة من الزمن ولما أعياني البحث تناسيت أمره، وذات يوم وأنا أقرأ في كتاب من كتب اللحن اسمه المدخل إلى تقويم
اللسان لابن هشام اللخمي صاحب شرح الفصيح المتوفى سنة577هـ وتحديدا في صفحة 111، وجدت البيت يُذكر في معرض الرد على صاحب تثقيف اللسان ابن مكي الصقلي عمر بن خلف المتوفى 501هـ في تخطئته نطق كلمة (صبِر) التي تعني عصارة شجر مرٍّ (القاموس المحيط)بتسكين بائها وحقها الكسر، ويأتي ابن مكي بالبيت شاهدا على كلامه، ولكنه لم يذكر قائل البيت إذ اكتفى بقوله: " قال الشاعر" وكذلك
لم يتعرض ابن هشام له، ومن حسن الحظ أن يوثق المحقق الأستاذ الدكتور حاتم الضامن البيت فيشير إلى قائل البيت أنه حَوْط بن رئاب الأسدي، ويذكر المصدر الذي ورد فيه القائل وهو سمط اللآلئ في شرح أمالي القالي للبكري تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي توفي سنة 1399هـ/ 1978م، لم يكن هذا الكتاب لدي ذلك الوقت، عجلت إلى أستاذي الدكتور مصطفى عدنان الدليمي مهاتفا لأسأله عن كتاب البكري هذا، فقال لي إن الكتاب لديه ولكن بتحقيق الدكتور محمد نبيل طريفي وليس بتحقيق الميمني، أخبرته بالأمر، فأعلمني أن هذا البيت من أصل
أبيات ثلاثة في أمالي أبي علي القالي المتوفى سنة 356هـ، عدت إلى الأمالي، ووجدتالأبيات في (مطلب ما وقع لخالد بن عبد الله القسري من الحَصَر وهو على المنبر وما قاله في ذلك) دون أن يذكر قائل الأبيات وهذا نصه: " قال أبو علي: وقرأت على أبي بكر بن دريد المتوفى سنة 321هـ لبعض العرب:
دَبَبْتُ لِلْمَجْدِ والسَّاعونَ قد بلغوا * جَهدَ النُّفوسِ وألقَوا دونه الأُزُرَا
وكابدُوا المجدَ حتى مَلَّ أكثرُهمْ * وعانق المجدَ مَنْأوفى ومَنْ صَبَرا
لا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ * لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا
فلما أتى البكري على هذه الأبيات وهو في معرض شرحه للأمالي ذكر القائل، بدأت أبحث عن هذا الشاعر فوجدت في الأعلام لخير الدين الزركلي المتوفى سنة 1396هـ/ 1976م ترجمة موجزة عنه، وذكر أنه شاعر مخضرم اشتهر بأبي المهوِّش (هكذا ضبطه بكسر الواو) توفي سنة 15هـ، شعره متفرق منه قوله: (من الطويل)
يعيشُ الفتى بالفقر يومًا وبالغنى * وكلٌّ كأنْ لَمْ يَلْقَ حين يُزايِلُهْ
وفي الهامش من الأعلام يرجع إلى سمط اللآلئ للبكري، والوحشيات لأبي تمام، والإصابة لابن حجر، رجعت إلى الوحشيات وهو الحماسة الصغرى لأبي تمام المتوفى سنة 231هـ بتحقيق عبد العزيز الميمني، فوجدت أن أبا تمام أورد لأبي المهوش حوط بن رئاب الأسدي بعض أبيات لا تزيد على الستة حيث أورد قطعة من خمسة أبيات مع ذكره للبيت الأول رواية أخرى، ولم يورد الأبيات الثلاثة، وفي الهامش يقول المحقق:
" خرجناها بما لا مزيد عليه في السمط"، ولا أنسى أمر ضبط كنية الشاعر في الوحشيات فقد ضبطت بفتح الواو (أبو المهوَّش) في حين أن صاحب الأعلام ضبطها بالكسر، وفي الإصابة لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ ذكر ما نصه: " حوط بن رئاب الأسدي الشاعر: ذكر أبو عبيد البكري في شرح الأمالي : أنه مخضرم، وهو القائل:
ونيت للمجد والساعون قد بلغوا * جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
وأنشد له المرزباني:
يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغنى * وكل كأن لم يلق حين يزايله " اهـ
وقد رأينا أن رواية البيت الأول : (دببت...) في أمالي القالي، وقد أورده في الإصابة: (ونيت...)، وقد رجعت إلى معجم الشعراء للمرزباني المتوفى سنة 384هـ غير أني لم أجد البيت الذي أتى في الإصابة وقد عُزي إنشاده إليه ، فلعل النسخة التي اطلع عليها ابن حجر من معجم الشعراء فيها ذكر للبيت والشاعر، أو أن النسخة التي وصلت إلينا قد سقط منها ما اطلع عليه وهذا يحصل كثيرا فنحن نجد أن مؤلفا يذكر في مؤلفه أن كلاما أخذه من كتاب قد وصل إلينا غير أننا لا نجده في نسخته التي وصلتنا، أو أن المرزباني قد ذكره في موضع آخر في مؤلف له لم أستطع بلوغه ،وقد رجعت إلى كتاب الموشح للمرزباني نفسه علّي أجد بغيتي منه فآيسني ..
بعد هذه التطواف نخلص أن البيت لأبي المهوّش حوط بن رئاب الأسدي اعتمادا على البكري في سمطه، وأن صواب قراءته أن نكسر باء (الصبِرا)، لا أن نسكنها، إذ معنى الصبِر هنا عصارة شجر مرٍّ ومِنْ ثَمَّ هو يُلعق، ولا مجال لـ(الصبْر) في البيت معنى ووزنا.

الثلاثاء، 13 مارس 2012

العُباب

أرحب بكم في مساحتي الإنترنتية، التي أسميتها "العُباب"؛ لأبحر فيها معكم نحو آفاق العلم والمعرفة