مدونة زاهر الهنائي
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس

الخميس، 15 مارس 2012

إضاءة

نشر هذا المقال في "شرفات" ملحق جريدة عمان، بتاريخ 18أكتوبر 2011م
نشر في ملحق شرفات مقال يبحث في قضية تسمية "بهلى" -إحدى ولايات السلطنة المعروفة- منذ وقت لا بأس به، وقد كنت قرأت المقال وقت نشره في الملحق، فكانت لي وقفات، ووددت يومها أن يشاركني في الوقوف عليها قراء الملحق، لتكون إكمالا لما ورد في المقال الذي أعده بداية جادة للشروع في العمل على مدونة أسماء الأمكنة والبلدان العمانية، إذ البحث في هذه القضية –من وجهة نظري- غاية في الأهمية، لها أبعاد عدة لتأسيس مرجعية لأسماء الأمكنة والبلدان العمانية تجليةً لأبعاد تأريخية واجتماعية ولغوية، نعم لقد كانت هناك محاولة في هذا المضمار من خلال موسوعة أرض عمان التي حاولت التأصيل لأسماء الأمكنة والبلدان، ولكن العمل يحتاج إلى جهد مستمر ومتصل بغية الظفر بخيط من الحقائق فكيف بالحقائق نفسها، ولا تكفي الجهود الفردية بل لابد من جهد مؤسسي يضطلع بهذه المهمة، وهناك محاولة أخرى متواضعة قبل هذه المحاولة هي مؤلَف "إزاحة الأغيان عن لغة أهل عمان"، حاول فيه مؤلفه في الجزء الأخير منه تأصيل بعض التسميات، ولكن تبقى هناك الحلقة الناقصة دوما، وهي البعد التأريخي، فالبعد اللغوي بمعزل عن البعد التأريخي لن يؤدي إلى الغاية المرجوة، فهو استقراء ناقص قد يحيد بنا عن الحقيقة والصواب.وهناك أمر مهم ملحوظ في المحاولات السابقة، فهي تعتد بالبعد اللغوي ولكن اعتدادها به يعتريه النقص من جهة اعتماده على اللغة العربية فقط، وبهذا يذهب التأصيل مذهبا قد يجافى فيه الصواب، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بمكان تعاقبت فيه الحضارات من مختلف الأجناس، وتعددت فيه الثقافات واللغات، فحري بنا أن نعيد النظر في المنهج بغية مقاربة الصواب وتلمس الحقائق.بحث المقال وجهتين مختلفتين، تتعلق الوجهة الأولى بقضية رسم الكلمة، أما الوجهة الأخرى فتتعلق بلفظها، والرسم كما نعلم ليس هو اللفظ، وكثير من الناس التبست في أذهانهم هذه القضية نظرا لارتباط الرسم باللفظ وملازمته إياه، وكأنهم لم يدركوا أن الرسم عند قوم ما يأتي في الأصل بعد اللفظ، فهم يبحثون عن تصوير له يتعارفون عليه، ولذلك تتعدد أحيانا رسوم الكلمة الواحدة وفق عرف أصحابها، بل قد يبقى الرسم نفسه لا يتغير بعد اعتراء انحراف صوتي في الكلمة، وهذا يتجلى واضحا في الرسم العثماني في نحو كلمة "الصلوة" و"الزكوة" وغيرها مما هو في الرسم العثماني. صحيح أن الرسم في البدء اجتلب ليمثل اللفظ تمثيلا دقيقا ولكنه قد لا يواكب بعد ذلك تطور اللفظ السريع فيبقى على صورته الأولى، وهذا لا يقتصر على لغة دون أخرى، وقد تكون المحافظة على الأصل لاعتبارات اشتقاقية أو تاريخية أو صوتية أو غيرها من الاعتبارات التي ألجأت إلى هذه المحافظة. وقد تظل إشكالية الرسم شاخصة على مر الأيام لعلاقتها بتلك الأبعاد، فالتأريخ حفظ لنا قصصا من اضطراب الرسم العربي إلى وقت متأخر بل حتى يومنا هذا، واجتهد علماء الرسم في تقعيد القواعد ووضع الضوابط، فوضعوا مؤلفات تعنى بالكتابة وطرائقها كابن قتيبة في كتابه المشهور أدب الكاتب وغيره من العلماء.أتى طرق موضوع الرسم من جهته اللغوية في المقال طرقا يحتاج إلى وقفة عنده قد بينت طرفا منها فيما سبق، فالقول بأنه "ليس كل الرسم قياسيا كما أنه ليس كل اللغة قياسية" عموم يحتاج إلى تفصيل وتبيين، فقد أوضحت فيما سبق علاقة اللفظ بالرسم، وأنه في ظل غياب القاعدة يحدث الاضطراب، أما بعد تشكل القواعد ووضع الضوابط فإن مخالفتها يعد تجاوزا، ولنضرب على ذلك مثالا: هل يصح في هذا الوقت كتابة الصلاة والزكاة والأقصى وغيرها من الكلمات مثلما وردت في الرسم العثماني (الصلوة، الزكوة، الأقصا)؟ مع أن أهل ذاك الزمن قد ألفوا تلك الصور من الكتابة وتعارفوا عليها، ولكن بعد أن تم وضع القواعد واتضح مبدأ رسم الكلمات عددنا ذلك من الخطأ، وقد نأى أهل الرسم عن وصف ما جرى عليه نظام الرسم العثماني بالخطأ تنزيها للقرآن فقالوا عبارتهم المشهورة: "خطان لا يقاس عليهما خط المصحف وخط العروضي"، واستمراء الناس على كتابة كلمة ما على غير وفق القاعدة الضابطة ليس مدعاة إلى الأخذ بطريقة كتابتها وتركها كما استعملوها من غير إحداث تصحيح عليها وفق ما جرت عليه القاعدة.ولن تعدم أن تجد في كثير من المخطوطات تجاوزا للقاعدة بعد استقرارها، فهل كل ما ورد في المخطوطات من كلمات تكرر رسمها بما يخالف القاعدة وجرى استعمالها بصفة ثابتة فيها يُقبل ولا يُرد، لا بل يُجعل هو معتمدا يؤخذ به؟ فانظر مثلا إلى كلمة "الجنى" يأتي رسمها كثيرا "الجنا" على غير ما جرت عليه القاعدة، وهذا أمر طبيعي؛ لأن رسم صوت الألف ياء هو غير الأصل، فالأصل رسم صوت الألف بصورة الألف "ا"، وهذا ما درج عليه الناس قبل استقرار القواعد، ولكن المقعدين وضعوا قاعدة الأصل في الصوت، فما كان من هذا الباب أصله الياء كتبوه على صورة الياء وما كان أصله الواو كتبوه على صورة الألف"ا"، وسنجد كثيرا مثل هذا.هذا ما يتعلق بالرسم، أما ما يتعلق باللفظ فإن البحث عن اشتقاقه مرتبط بالأصول التي تُكَوّن الكلمة وهي التي يجمعها الجذر اللغوي، فالانطلاق في الرد على من زعم أن اللفظ مشتق من البُهل بضم الباء بتلك الطريقة التي جاءت في المقال، هو بحاجة إلى توضيح يزيل تلك الأحكام التي تبتعد عن طبيعة اللغة، ولتقريب الفهم دعونا نناقش ما ورد: ادّعى بعضهم أن اللفظ مشتق من البُهل الذي معناه الجامع للخيرات، نقف ابتداء عند هذه العبارة فلا نتجاوزها حتى نفند دعواها، فنقول لا يستقيم أن نقول البُهل هو الجامع للخيرات فطرفا التركيب لا ينسجمان، الطرف الأول "البهل" غير عاقل جامد، والطرف الآخر صفة لعاقل مشتق، فلا يستقيم إذن الإخبار عن غير العاقل بصفة العاقل، ثم لنا أن ننتقل بعد ذلك إلى نفي وجود لفظ البُهل في المعجمات. هذا أمر والأمر الآخر هو عبارة وردت في المقال آثرت عرضها للمناقشة هي: "هذا معظم ما ورد في اشتقاق "البهل"، ورغم ذلك لم تكن بضم الباء، وإنما بفتحها، فلو سلمنا أن أصلها مشتق من ذلك فهي بالفتح وليس بالضم؛ أي "بَهلا". هذا أمر غير مسلم به يناقض ما عليه اللغة، فمن قال إن ما وزنه فَعلى بفتح الفاء لا بد أن يكون مشتقا من الفَعل بفتح الفاء؟ فنحن نشتق جَوعى من الجُوع،، ونشتق ثَكلى من الثُكل وقس على ذلك كثيرا من ألفاظ اللغة، وبالعكس فإننا نشتق فُضلى من الفَضل، فليس هناك إذن مانع نظري من اشتقاق بَهلى بفتح الباء من البُهل بضم الباء.ثم إن هناك أمرا ينبغي الالتفات إليه ومناقشته، فقد تردد في غير موضع من المقال ما يشي بأن تأثير المدرسة السالمية كان له دور في توجيه اللفظ ورسمه، حيث كان انطلاقها من اللغة البيانية التي تحاول رد الكلمات إلى الصيغ العربية، وقد يُستشف من ذلك أن بَهلى بفتح الباء ليست من صيغ اللغة، وأن بُهلى بضم الباء هي من صيغ اللغة، والأمر ليس كذلك، فكلتا الصيغتين من صميم اللغة، فلو سلمنا أن الشيخ السالمي عندما ذكر في جوهر النظام في باب الضوابط: بُهلى بضم الباء ... قد تأثر باللغة، فلماذا اختار صيغة دون أخرى مع أن كلتا الصيغتين من اللغة؟ هذا من جانب، والجانب الآخر ينبغي الالتفات إلى كل البلدان التي ذكرها في الباب لا إلى بهلى فقط، فقد ذكر أربع عشرة بلدة، فكان من المنهج السليم أن ننظر إليها جميعها، فعلى سبيل المثال: "منح"، ذكرها بفتح الميم والنون مع أن منطق اللغة يقول: مَنْح بفتح الميم وسكون النون.واستند المقال أيضا إلى أن رسم اللفظ في التحفة بالألف دليل على رأي الشيخ السالمي ومذهبه، وليس هناك دليل صريح على أن الشيخ يرى رسم اللفظ بالألف، فالشيخ السالمي كان أعمى لا يرى، ووروده في كتابه ليس حجة قاطعة على ذلك، أضف إلى ذلك أنه جاء في جوهر النظام الذي هو كتاب الشيخ نفسه مرسوما بالألف الطويلة "بهلا".بل يزاد على ذلك أن الأبيات ربما –وهذا ما لم أتوثق منه- ليست للشيخ السالمي بل لصاحب الأصل الشيخ سالم بن سعيد الصائغي (ق:13هـ) صاحب أرجوزة "دلالة الحيران الجامعة لأحكام الأديان" التي كانت الأصل الذي بنى عليه الشيخ السالمي جوهره، وقد نتلمس للشيخ السالمي في موافقته وإقراره أو رأيه -إن كانت الأبيات له- وجها لذلك فيما نقله الشعر الذي ذكر فيه اللفظ المروي والمتناقل مشافهة، فقد جاء اللفظ في أبيات عدة من الشعر العماني، وقد تلقاه شيخنا وأخذه عمن قبله من الثقات، وليس هو تأثرا بمنطق اللغة إن جاز لنا القول.واعتمد المقال أيضا على القول بالفتح بما أورده من مقاطع رجزية بدا عليها الارتباك نُقلت من كتاب الأنساب للعوتبي وهي:امض ودع جبال بهلاتركت أهلا وأصبت أهلاحتى يحل الحمى أرضا سهلافعَدَّ إتيان كلمات القافية على "أهلا"، و"سهلا" دليلا على حتمية أن يكون اللفظ بفتح الباء، وهذا أمر غير مسلم به في منطق علم العروض، وهو لزوم ما لا يلزم، فليس شرطا أن تكون الباء مفتوحة هنا، ومن ثَمّ لا يمكن الاستدلال به. وفي المقطع الثالث خلل عروضي ربما نقل خطأ من مصدره، وكذلك في المقطع الأول؛ إذ ليس هو من وزن المقطع الثاني، فيبدو أن المقاطع يلفها اضطراب يؤدي إلى ضعفها.من كل ذلك لا يعني هنا أنني أقول بأن اللفظ بفتح الباء خطأ، ولكن رأيت أن الاستدلالات بحاجة إلى إعادة نظر قبل الحكم، وعلينا التريث وإعطاء الموضوع وقتا أكبر من البحث والنظر في كل أبعاده، وقد كان المقال فاتحة أضاءت لنا كثيرا من النقاط، وفتحت آفاقا رحبة للبحث في هذا الباب وتوسيعه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق