تأصيل كلمة مَخْزِين في الدارجة العمانية
هناك بعض الألفاظ التي يخالها المرء من أول وهلة أنها
عربية بحكم ظاهر اللفظ فلا يفطن أنها في الحقيقة خلاف ذلك إلا إن لفته ما يدل على
ذلك، نحن العمانيين وخصوصا كبار السن
يعرفون كلمة (مَخْزِيْن) ودلالتها، ولكن ربما بدأت هذه الكلمة تختفي بين
جيل الشباب نظرا لبعد اهتمامهم بحقل استعمال المفردة، فهذه الكلمة تدل على مخزن
الرصاص في السلاح، وهذا ما يؤدي إلى الوهم أنها عربية توافق كلمة (مَخْزَن)
الفصيحة وقد اعتراها تغير صوتي بسبب اللهجة، هذا ما يظن في الوهلة الأولى، ولقد ظل
هذا الاعتقاد لدي في أقل تقدير زمنا طويلا ولم يدُر في خلدي أن اللفظ ناجم عن
تأثير مباشر للغة أخرى. سأبدأ من آخر الحكاية، لقد وصل إلينا هذا اللفظ بمدلوله
الحالي وبشيء من التغيير الصوتي بتأثير من بعض اللغات الأوروبية كالفرنسية
والألمانية (das Magazin,
magasin)، إذ تعني اللفظة
بجانب معانيها الأخرى ما تدل عليه كلمة (مَخْزِيْن) لدينا، يأتي هذا الاستنتاج من
سياق مقال للباحث الألماني أندريس أونجر الذي تتبع تطور اللفظ في اللغة الألمانية
المعاصرة (das Magazin، ماجاتسين) في كتابه
"من الجبر إلى السكر، الكلمات العربية في اللغة الألمانية" - وللكلمة
الألمانية عدة معان مستعملة في اللغة الألمانية المعاصرة، من بينها ما تعنيه كلمة
(مَخْزِيْن) (ينظر في المعجم الألماني المعتمد Duden) - الذي افترض الكاتب فيه أن
الكلمة الألمانية Magazin، بمعنى مخزن الرصاص،
قد تطور عن الكلمة الفرنسية (magasin، ماجازين) التي تعني
في أحد معانيها هذا المعنى، صحيح أن الكاتب افترض أن اللفظ تطور في الأصل عن
الكلمة العربية مخزن إلا أن التأثير المباشر في الحقيقة كان عن طريق تأثير لغات
أخرى كما أشرت، فقد بدأ الكاتب بتأصيل اللفظ وافتراض أصله القديم من كلمة
"مَخْزَن" العربية التي اشتقت من الفعل "خزن" الذي يدل على
معنى التخزين والحفظ والجمع والتكديس،
ويذكر أندريس في مقاله أن أحد المعاجم العربية في القرن 11 الميلادي دون أن يذكر
اسمه ورد فيه أن مَخْزَن وخِزانة يحملان المعنى نفسه، وقد جاء لفظ الجمع في القرآن
"خزائن" دالا على معنى الشيء المخزون ومكان خزنه ودل أيضا على معنى
الكنز، ويضيف أن اللفظ كان يطلق على
مستودع البضائع في أسواق العصور الوسطى، وكذلك أُطلق على المكان الذي ينزل فيه
التجار للراحة، وفي الغرب الإسلامي تدل كلمة مخزن قبل كل شيء على إدارة الأموال،
ومنذ عهد المرابطين أطلق اللفظ على الجهاز الحكومي في المغرب، وربما يرجع أصل ذلك
إلى قيام الأمير إبراهيم بن الأغلب (ت812م) بحفظ إيرادات الضرائب في صندوق حديدي
(مخزن).
يذكر أندريس أن هذه الكلمة وصلت إلى أوروبا في أغلب الظن
عن طريق تجارة البحر المتوسط مع شمال إفريقية، إذ ظهرت لأول مرة عام 1214م، وليس
واضحا بالتحديد ما إذا كان نشوء اللفظ من النطق الشمال الإفريقي لمخزن (مَخْزين)
بالإمالة أو من صيغة الجمع مخازن. وفي عام 1229م استمدت مدينة مارسيليا قوانين
نظام فنادقها من شمال إفريقية بحكم العلاقة التجارية بين التجار الأوروبيين والعرب
المسلمين الذين كانت لديهم سابقة في النظام الفندقي وقوانينه، فقد كان التجار
ينزلون في نزل خاصة أعدت لهم في مجمعات سكنية بمناطق المواني الإسلامية فانتشرت
هذه الأنظمة بعد ذلك في مارسيليا وغيرها من المدن الأوروبية، وبصيغة مماثلة وجدت
هذه الأنظمة لدى التجار الألمان في البندقية بإيطاليا مع بداية 1225، وفي هذه
الأنظمة الفندقية المارسيلية يرد ذكر لنوع من أنواع النبيذ لدى المسلمين يدعى mag(u)azenum (باللغة اللاتينية الوسطى)،
وبطريقة مشابهة دلت كلمة magazzini
(صيغة جمع من اللغة الإيطالية) في أواخر 1348
على معنى مخزن للنبيذ اليوناني في أحد المواني، وبالمعنى نفسه ظهرت الكلمة، التي
اقتُرضت من الإيطالية، عام 1558 أيضا في الألمانية، حيث جاء تعريف كلمة Malvasier: " Malvasier(مالفازيا):
نوع من أنواع النبيذ أصله من بيلوبونيز (Peloponnes،
شبه جزيرة بجنوب اليونان) كان يُحمل إلى السفينة من المخازن (Magatzin)، وبداية من القرن 17 بدأ استخدام
الكلمة في المجال العسكري < magazin und provianthäuser > أي
مستودعات المؤن (عام 1641)، وأكثر وضوحا (عام 1665) < Mgazin, Zeughaus und dergleichen > أي
مستودع الذخيرة. ومن الكلمة الفرنسية magasin اقترض اللفظ الألماني Magazin للدلالة على معنى محلات الشراء
(نهاية القرن 18). وفي المقابل حملت كلمة Magazin
مدلول لفظmagazine من اللغة الإنجليزية (The Gentleman's Magazine, 1731) للدلالة على معنى
مجموعات النصوص (Sammelstelle)، والتي كان أول
بدايات ظهور لها في ألمانيا 47/1748 في العنوان:
"Hamburgisches Magazin oder
gesammelte Schriften, aus der Naturforschung und den angenehmen Wissenschaften
überhaubt"
"مجموعات هامبورج أو الكتابات المجموعة من البحوث العلمية والاجتماعية.
(ترجمة)"
ثم بعد ذلك أصبحت الكلمة كما هو معلوم تدل على المجلّة، ومع بداية منتصف
القرن 20 تطورت لتدل على مجموع المساهمات في موضوع معين <في برامج الإذاعة والتلفزيون>، ومع اختراع السلاح
متعدد الذخيرة منتصف القرن 19 أطلق أيضا على مستودع الذخيرة في السلاح Magazin، وهو على الأرجح مستمد من اللغة
الفرنسية magasin حسب أندريس.
وهكذا وصل إلينا هذا اللفظ كما هو الشأن فيما يصل إلينا
من سلع وأدوات بتسمياتها، وهذا مجرد مثال على دخول كلمات من لغات أخرى في الدارجة
العمانية أحببت أن ألفت النظر إليه، والموضوع يستحق في رأيي الاعتناء والوقوف عنده
تشخيصا للهجة العمانية وتوصيفا للتغيرات التي تطرأ عليها في الاستعمال نظرا لطبيعة
عمان التي انفتحت، وما زالت، على حضارات وثقافات ولغات متعددة عبر حقب الزمان
المختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق