مدونة زاهر الهنائي
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

المعجم العربي الألماني لهانز فير يولد من رحم الحرب العالمية الثانية

مقال صادر في ملحق شرفات بجريدة عمان 15.11.2016

زاهر الهنائي –
اسم هانز فير Hans Wehr (1909-1981) لا يغيب عن ذهن كل دارس للغة العربية من الأجانب، هذا المستشرق الألماني الذي خلد اسمه بعمله العظيم معجم اللغة العربية المعاصرة. هذا المعجم الذي أصبح عمدة في مصادر تعلم العربية لغير الناطقين بها ولا غنى لأي مستعرب عنه. ولكن ظروف نشأة هذا العمل الخالد ربما تكون غائبة ولم ينتبه لها كشأن الأعمال الخالدة التي لا تموت بعد أن ولدت من رحم المشاق، يذكر العمل وتنسى ظروف النشأة. هناك إشارات عن العمل أوردها عبد الرحمن بدوي في كتابه الرائع «موسوعة المستشرقين»، ولكنه لم يتطرق لأصول نشأة هذا السفر الكبير، التي تظهر كيف وصل إلينا المعجم رغم ما أحاط بنشأته من ظروف كادت تفنيه ولا تبقي له أثرا، ولكن عزيمة فير ومضاءه كانت أشد وأبقى، فكتب لعمله العظيم الخلود! تذكر المصادر الألمانية ظروف هذه النشأة ومراحل المشروع حتى طباعته. ومنها استمد هنا هذه المعلومات لأقدمها للقارئ ليستبين له ويتضح شأن هذا السفر وما أحاط به من ظروف النشأة.
يرتبط اسم فير في علوم العربية على مستوى العالم الناطق بالألمانية وخارجه بمعجمه الذي كانت أصول نشأته في مدينة «غرايفسفالت» في الشمال الأقصى من ألمانيا، وكانت هناك بعض المبادرات الفردية لعمل معجم عربي ألماني، وكان آخرها لدى دار أوتو هارسوفيتز. وعندما كان هناك توجه في وزارة الخارجية الألمانية إلى ترجمة كتاب هتلر «كفاحي» إلى العربية وأدركت حاجتها إلى معجم في اللغة العربية المعاصرة لتسهيل مهمة الترجمة، وعرفت بدعوات بعض الباحثين إلى تأليف معجم عربي ألماني ومنها مقال هانز فير في مجلة الإسلاميات الذي في العدد السادس من المجلة سنة 1934، دعا فيه إلى هذا المشروع، أوكلت وزارة الخارجية إلى دار هاراسوفيتز إنجاز هذا المشروع ووفرت لها كامل الدعم. اختارت الدار المستشرق هانز فير لهذا المشروع وإدارته لكفاءته واهتمامه بهذا المجال المتجلي في أطروحته للدكتوراة التي نشرها في برلين سنة 1934 وكانت بعنوان «خصائص اللغة العربية الفصيحة المعاصرة وتأثير اللغات الأوروبية عليها. واختير لمعاونة هانز في مشروعه كل من الدكتور أندرياس ياكوبي الذي كان حينها، على ما يبدو، «نصف آري» مستبعدا من الخدمة في السلك الحكومي ورأى في الاشتراك في المشروع ملاذا له، كما كان أحد معاونيه هاينريك بيكر المقيم في مدينة هلّه. لم يستمر الدكتور ياكوبي في المشروع عندما حصل على اعتراف بآريته سنة 1934 نتيجة مجهودات والده التي بذلها في تحقيق ذلك، وبذلك التحق بالخدمة العسكرية، أما المعاون الآخر المستشار هاينريك بيكر الذي كان معتقلا في أحد معسكرات الاعتقال النازية بسبب علاقته بجناح شتراسر النازي، وكان تحت رقابة الشرطة السرية النازية فخشي من الاعتقال مرة أخرى فقرر سنة 1942 التسجيل في الخدمة العسكرية. طالب فير نهاية سنة 1942 الشرطة السرية النازية أن تسمح للمستعربة الألمانية اليهودية هيدفيك كلاين أن تساعده في المعجم بسبب ظروف الحرب، بحيث تستثنى مؤقتا من الترحيل إلى المعسكر النازي في تيريزينشتات في التشيك. عملت معه في المشروع في هامبورج ولكن تم ترحيلها في يوليو من عام 1942 إلى معسكر أوشفيتز النازي في بولندا.
قدم هانز طلبا للالتحاق بالحزب النازي نهاية 1940 بضغط من رئيس هيئة التدريس بجامعة غايفسفالت الذي أوضح له أن المدرسين الشباب مطلوب منهم أن يكونوا أعضاء في الحزب النازي NSDAP وكتيبة العاصفة SA. كانت مخطوطة المعجم التي عمل عليها هانز مع زميله الدكتور ياكوبي لم تصف حروفها وتنضد إلا في سنة 1944. كما تمكن هانز من حماية النسخة «البروفه» الكاملة من المعجم في الأشهر الأخيرة من الحرب عندما أرسلها في ربيع سنة 1945 إلى مكتبة الجمعية الشرقية DMG في مدينة هلّه. وعندما تم تسليمه المخطوطة مرة أخرى في ربيع سنة 1947 قام بتقويم ومعالجة النصوص العربية مرة ثانية، فقد ظن أن عليه أن يعيد رصف المعجم بشكل جديد؛ لأنه نمى إلى علمه أن المطبعة تم قصفها وقضي على رصف الحروف وتنضيدها. ولكنه لم يعلم إلا في عام 1948 أن رصف الحروف ما زال سليما ولم يلحقه ضرر فاستعجل في إدخال الإضافات التي عملها إلى طبعة المعجم. ولكن ظروف ألمانيا بعد الحرب من إجراءات التصريح المعقدة وشحّ الأوراق أخرت طباعة المعجم، فلم تظهر الطبعة الأولى منه إلا عام 1952 وكانت بعنوان «المعجم العربي للغة الكتابة العربية المعاصرة». واصل هانز فير بعد ذلك عمله في جمع المادة عن طريق الاستعانة بمستخدمي المعجم الذين أمدوه بالتحديث اللغوي بما يصادفونه في أعمالهم وفي قراءاتهم، مما لم يسجله فير في معجمه المطبوع. ونتيجة لذلك صدر ملحق مستقل سنة 1959، وقد تم إدراج ما تضمنه هذا الملحق بعد وفاته في الطبعة الخامسة من المعجم وذلك سنة 1985.
كانت الجودة التي حققها المعجم من خلال اعتماده على المصادر الأساسية سببا في الاهتمام به من خارج الفضاء الناطق بالألمانية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تمت طباعة ترجمة للمعجم إلى اللغة الإنجليزية عن طريقJ. Milton Cowan،نشرت سنة 1961، وأدرج ما ورد في الملحق إليها. وفي عام 1976 تمت طباعة نسخة مصغرة منه وعرفت بـ «the green Wehr» بسبب لون غلافها الأخضر. وظهرت الطبعة الإنجليزية الرابعة منقحة ومزيدة سنة 1979.
يشار إلى أن المستشرق هانز فير له إسهامات بحثية مهمة في الدراسات العربية، وقد قامت مجلة اللسانيات العربية Zeitschrift für arabische Linguistik، التي تصدرها جامعة هايدلبرج، في عددها الثامن سنة 1982، بنشر قائمة بجميع أعماله.
المصادر:
– موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1993
– im Katalog der Deutschen Nationalbibliothek Literatur von und über Hans Wehr
– Zeitschrift für arabische Linguistik, Heft 8, 1982, S. 7-11
-https:/‏‏/‏‏de.wikipedia.org/‏‏wiki/‏‏Hans_Wehr

الخميس، 6 أكتوبر 2016

رسائل أميرة عربية..قراءة في كتاب رسائل إلى الوطن بواسطة صحيفة البلد - 06/10/2016

إبراهيم سعيد،،
رسائل أميرة عربية..قراءة في كتاب رسائل إلى الوطن للسيدة سالمة بنت سعيد آل سعيد ترجمة زاهر الهنائي، منشورات الجمل ٢٠١٦م
“آه كان ذلك شديد المرارة، هل عليّ أن أقضم تفاحة الحضارة المتجردة من العواطف أم يتوجب عليّ أن أيأس في منتصف الطريف قبل أن أكمل العمل الشاق؟” ص١٦٧
السيدة سالمة

الصديقة والوطن:
من هي الصديقة الزنجبارية التي تبعث إليها الأميرة السيدة سالمة (إميلي رويته) تفاصيل حياتها وتأملاتها في مهجرها الألماني البارد؟ للحظة ظننت أن الأميرة كانت تبعث رسائلها إلى نفسها الباقية في زنجبار، لكن لا شك أن الرسائل تشير إلى صديقة مقربة جداً منها، لم تزل تراسلها بلا انقطاع، تروي لها ما يحدث في زنجبار، وتشاطرها حياتها ورحلتها إلى الحج، شخصية حقيقية لا خيالية، إذاً لماذا بقيت الرسائل في حوزة الأميرة، هذه بعض الأجزاء المفقودة كما سيلاحظها القارئ، إضافة لبعض المناطق المعتمة والانقطاعات البسيطة في سير الأحداث، والمفقودات منها ما يشير إليها المترجم في المقدمة حول نصوص أخرى كتبتها الأميرة عن سورية ويافا وبيروت ولا أثر لها في الكتاب.

تم العثور على كافة الرسائل في محفوظات الأميرة سالمة بعد وفاتها، ولحساسية بعض أبنائها من نشر تلك المعاناة الصعبة التي واجهتها الأميرة في التأقلم مع الحياة الألمانية والغربية عموماً فقد قرروا عدم نشرها، هكذا تأخر النشر كثيراً، نُسي العمل في الأدراج حتى قام الباحث الهولندي فان دونزل بنبش هذا التراث ونشره، بالأنجليزية عام ١٩٩٣م، كما يشير المترجم لذلك في المقدمة، ثم نشر بالألمانية عام ١٩٩٩م، والآن بالعربية هذا العام ٢٠١٦م في جهد رائع من المترجم زاهر الهنائي، في حدث وعمل لعله الأهم أدبياً، خصوصاً في حقل السيرة الذاتية هذا العام.

قارئ الجزء الأول من مذكرات أميرة عربية لا شك أنه يذكر ذلك الجانب التحليل النقدي للحياة الألمانية في المذكرات، وذلك الشوق والحنين إلى زنجبار، وهنا في هذا الجزء نتعرف على محرك الشجن الكبير والحب الجارف الذي رأيناه في الجزء الأول من المذكرات، إلى درجة أن شاهد قبر الأميرة سالمة في هامبورج كتب عليه هذا الشطر من قصيدة الشاعر الألماني فوناته: “مخلص من أعماق قلبه من يحب وطنه مثلك” ولعل هذا الشاهد كتب بإقتراح من ابنتها وردة (روزا) التي عرف عنها حبها للأدب واللغات.

تحلل الأميرة في رسائلها المجتمع الألماني الجديد عليها، وتلقي نظرة نقدية مقارنة بينه وبين مجتمعها الزنجباري الذي جاءت منه، فسرعان ما تعلن منذ بداية رسائلها إدراكها لمدى جدية العقل الغربي والألماني بالأخص وحرصه على (التقدم)، إلى درجة تصفها بالمبالغ فيها: “إن التمدن المفرط قد جعل الناس على هذه الشاكلة.. فمع التمدن ظهر الوهم، ولدى آخرين برز معه الغرور..” ص١٨ ذلك المجتمع الذي يجب فيه على الضعيف الذي لا يستطيع مجاراة تلك الرغبة الشرهة أن ينزل عن الخط السماوي على الأرض عندما تضعف مقاومته “للصدمات الأخلاقية غير المعدودة التي تنتمي إلى الحضارة” ص١٨

الحُب والصدق:
تحمل رسائل الأميرة في هذا الكتاب، كما في مذكراتها من قبل، نفس الفكر المتأمل والنقدي تجاه حياتها الألمانية، لا نجد ذلك الإستلاب الأعمى كما يُتوهم، بل نقرأ نصاً على درجة عالية من الصدق مع الذات، والقدرة على الانفصال والرؤية من زاوية مختلفة للواقع، وبالنسبة لحالتها الشخصية في تلك الأعوام من القرن التاسع عشر وبدايات العشرين لعل المداراة كانت أسهل عليها، على أقل تقدير، أو حتى تجميل الأشياء والأحداث كان سيكون أقرب منالاً، على الأقل لتبرير قرارها الشخصي بالهرب من زنجبار إلى ألمانيا ١٨٦٧، تلك الرحلة التي تحكي تفاصيلها ص١٩ ووصولها إلى مرسيليا كأول محطاتها الأوروبية: “بدا لي وكأني لن أرجع بعد الآن إلى الوطن أبداً، وأن كل الجسور تنهار من ورائي، وتحول صراخ روحي إليكم إلى آلاف الأصوات من جزيرتي الحبيبة التي تنادي جميعها بصوت واحد: لا تذهبي أبعد من ذلك، عودي.” ص٢٢.

يمكن لمحبي الروايات أن يقرأوا الكتاب كرواية واقعية، قصة الحب التي تحولت إلى مأساة، وقصة كفاح قاسية، وتاريخ، وهذا ما قاله أوسكار وايلد عن مذكرات الأميرة حين قرأها، وما نكرره هنا عن الرسائل، لكننا هنا أمام طريقة الواقع في حبك سرد الوقائع والأحداث، وهنا سيلمح القارئ أدلة كثيرة على أن الحُب وحده كان هو المحرك الكبير لحياة الأميرة التي تبعت قلبها حتى النهاية، ذلك الحب الذي من أجله تحملت ما تحملت إلى آخر لحظة، إيمانها الكبير بذلك الحب للرجل الذي أحبته، والذي تصادف أن يكون ألمانيا، وكان يمكن أن يكون من أي مكان آخر، ولا علاقة لألمانيته بالحب الذي بادلته ذلك الرجل والذي بادلها الحب بحب مثله، تنضح به صفحات وصفحات ومشاهد كثيرة، لقد أستجابت الأميرة لحبها وأخلصت له إخلاصاً منقطع النظير وارتبط كل شيء فيها به، حتى بعد وفاته، حتى يمكن أن تصبح قصتها مضرباً للمثل في الحب والوفاء. هذه حقيقة أظن يجب تأكيدها اليوم ، بعد قرن تقريباً، لنعيد تنصيب هذا الرمز الثقافي الذي يخصنا جميعاً ونتقاسمه، السيدة والأميرة الزنجبارية ذات الدماء العمانية التي انقادت لقلبها، وقلبها وحده. بهذا يمكننا أن نعرف الدوافع الحقيقية وراء التغيير الكبير الذي وافقت الأميرة على السير فيه. والقلب الملكي الذي ظلت تتبعه إلى النهاية بكل وفاء.

فاجعة الكرز:
طلب زوجها على سرير احتضاره ووفاته فاكهة الكرز، تلك الفاكهة التي تعودت الأميرة أن توزع منها كل عام على الناس، لكن منذ فقد زوجها صار الكرز ثقيلاً على نفسها ولا يذكرها إلا بفاجعتها به ص٨٩، ذلك الزوج كان عائداً بلهفة إلى بيته ولأنه وقع في هفوة بسيطة في توقيت القفز من القطار قبل توقفه، سقط تحت عجلات القطار، تحولت محاولته لكسب قليل من الزمن إلى فقدان كامل للزمن.
هو الحب الخالص. يدلك على ذلك طلبها الموت بعده: “استولت علي أمنية واحدة، وهي أن أكون من تلك الطائفة التي تحكم على الزوجات بالحرق في كومة الحطب، حتى تلحق مباشرة بالزوج! فماذا يمثل إحراق الجسد بالنار والعذاب القليل مقارنة بالآلام المستمرة والتي لا حصر لها للنفس البشرية، هذه الأفكار وثنية، لا تتفق مع الإسلام ولا المسيحية، ولكن هل العذابات المضاعفة التي نلقاها على هذه الأرض هي أخف عذاباً من موت سريع بالنار؟” ص٩٤
كانت الفاجعة كبيرة عليها بوفاته: “حتى تذكر اولادي الثلاثة لم يكن يعزيني” ص٩١، إلى حافة الجنون: “كنت أفقد عقلي فجأة”، وإلى حافة الإلحاد: “أعرضت عن الله، في هذه الحالة فقط، شكوت إليه بمرارة كيف سمح لمثل هذا البؤس الشديد أن يحدث”، هناك عند فقد الحبيب شعرَت بالتحديد بما حدث لها فعلاً، كأنها بوفاته عادت إلى الواقع: “إن فقدي للوطن والأهل والثروة الذي تكبدته في غضاضة شبابي، لم أدرك فعلاً مدى فداحته الحقيقية إلا الآن. لم أحس مطلقاً بمثل هذا الحنين الحارق إلى الوطن، في هذه اللحظة شعرت فجأة بأني لا أهل لي ولا وطن.” ص٩٣
إعتراض قدري كبير نشأ في قلبها بوفاته: “مع أن الصلاة كانت هي الوحيدة التي ستواسيني إلا أني للأسف لم أكن أؤديها في البداية. كانت روحي تعيش نوعاً من الثورة وكان يجب أن تقتحم الطريق الآن، وعندما تمكنت أخيراً من الصلاة بيقين وإيمان مثلما تعلمت في شبابي (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) حمدت الله إلى الأزل. وأصبحت أشعر في داخلي بالراحة قليلاً.” ص٩٥ ولم يكن قراراها بالبقاء في ألمانيا إلا إخلاصاً لذلك الحب:
“قررت أن يتربى أولاده في بلده، إخلاصاً لذكراه”

تمثيل الشرق:
تدخل الأميرة إلى أوروبا عبر طريق عدن فمرسيليا وصولاً إلى ألمانيا فمحطتها وإقامتها الطويلة في هامبورج، إلى وفاة زوجها، ثم تشردها من جديد بين المدن الألمانية المختلفة كدريسدن ودرامشتات بلوغاً إلى برلين، لقد سبرت الأميرة المجتمع الألماني والغربي بعين حادة وفكر ثاقب، سنرى أبعاده، وكانت تحلل ما تعيشه من حولها.
أما الشرق البعيد (الحبيب الآخر) فقد حملته الأميرة معها على الدوام كحنين كبير وكرموز وأشياء مادية صغيرة عزيزة على القلب، وكفكر في التعاطي مع الأحداث، بل حتى كمسئولية وواجب، بالنسبة لها، ظلت تحرص عليه: “عزمت على ألا يهدأ لي بال حتى أتعلم لغة هذه البلاد، ولا سيما لسببين، الأول هو بسبب العجز الذي أعايشه..، والثاني هو حرصي على سُمعتكم لأنني قد أُعتبر ممثلة للشخصية العربية… حتى لا أترك انطباعاً فيه شيء من شفقة الجميع على تنشئتنا المتواضعة حسب كثير من الآراء هنا.” ص٣٠ وحرصها  على صورة العربي في الغرب حتى على حساب انشغالها وهمومها وآلامها ومصاعب الحياة، فها هي لا ترد الدعوات المقدمة إليها في دريسدن ودافعها: “لا أود أن أقدم للناس الأحبة سبباً ليس ضروريا للحديث بإسهاب في مجالس القهوة حول نقص التهذيب العربي” ص١٥٠
كانت مهتمة على الدوام بعكس صورة طيبة عن الشرق للغرب، كثير من أفعالها الحياتية كان نوعاً من مشاريع وقناطر في ألمانية، تمد جسوراً تقاربية بدل أودية الخوف والإتهامات، بما في ذلك المذكرات التي كتبتها ونشرتها، لكن مع وعي واقعي أيضاً بماهية الشرق وما هو عليه فعلاً، وليس غراماً أعمى: “كنت ألبس حتى وقت قريب زي أسلافي القديم منذ آلاف السنين، وكنت أستخدم أصابعي الخمس كسكين وشوكة طبيعيتين” ص٥٧ تلك كانت طبيعة الشرق في القرن التاسع عشر الذي تجري فيه أحداث هذا الكتاب، ، وربما ولا زالت، بل حتى النور الذي كانت تنظر به إلى الأشياء الغربية ما زال هو نور بلادها الأولى: “كنت أرى بنور أفريقيا البعيدة وليس بنور شاطئ نهر إلبه” ص١٢٨

سبر الغرب:

يبين هذا الكتاب أن الأميرة عاشت في الغرب بعين نقدية وفكر تحليلي لذلك العالم، تقارنه وتقاربه في محاولاتها لفهمه، بل وتحترمه إحتراماً فيه من الطيبة وحسن النوايا والحرص على المشاعر الكثير: “الكلام عن العادات والتقاليد لأمم مختلفة هو أمر له حساسيته، فقد يتعرض للإساءة إلى هذه الأمم من دون قصد” ٦٣ وهي في رسائلها هذه كانت تفكك مظاهر الحياة الغربية ومنظومتها وتصل إلى استنتاجات فكرية مذهلة نجد لها صورة مقاربة لاستنتاجات مفكرين مرموقين من القرن العشرين، لننظر مثلاً لتحليلها للبلاد الباردة والحارة:
“نُتهم نحن الشرقيين بما فيه الكفاية أننا كسالى وخاملون من وجهة النظر الغربية ويُنسى بذلك كثيراً كم هي قناعة الجنوبيين عموماً، الشيء الذي لا يمكن بالتأكيد أن يفترضه الأوروبي المتمدن، ويُضاف لذلك أن برودة الشمال استوجبت الحاجة لآلاف الأشياء في حين أن المرء في الجنوب في غنى عن الحاجة إلى كل هذه الأشياء، هذا يؤدي أيضاً إلى أن الإنسان لا يستحسن العمل المضني أبداً.” ص١٦٤
ألا يعيدنا هذا مباشرة إلى ما ذكره مفكر مرموق هو المفكر الراحل علي مزروعي حول تأثير البيئة على نمط وطريقة الناس في العيش بالمقارنة بين بلاد الشمال الغربية والجنوب الأفريقية، وذلك في نهاية القرن العشرين، بينما كانت الأميرة تذكر ذلك في نهاية القرن التاسع عشر.
ولنتأمل ترقبها الحثيث لأمزجة الشعوب واستنتاجاتها: ““أدركت لاحقاً أيضاً، لماذا يعاني الإنجليز من “لوثة” مثلما يشاع عنهم، في شهر نوفمبر وديسمبر. إن يوماً ضبابياً كئيباً كان يسبب لي اكتئاباً حتى إنني أرغب في البكاء كأفضل حل..” ص٥٩ وإلى فهمها الحصيف للحرب العالمية الأولى التي اندلعت في أوروبا: “قامت بين الأمتين حرب لا يمكن لكم في جزيرتكم الآمنة تصورها، فمئات البشر يُضحى بهم من الجهتين تقريباً مثلما يُضحي المسلمون الأضاحي الكثيرة التي لا حصر لها في جبل عرفات….
للإنجرار إلى مثل حرب الإبادة هذه، وبالمناسبة المسحيون ضد بعضهم، يبدأ المرء في أوروبا في وقت مبكر جداً بتربية الأولاد على هذا الأمر. وجميع الدول الأوروبية واقعة من قريب أو من بعيد في داء عضال، هو الغيرة، لا أحد يبخل على الآخر بها، وكل دولة تسعى دائما أن تنافس الأخرى بأي ثمن” ص٧٣
نتعرف أيضاً إلى رؤيتها إلى المفاهيم والمبادئ التي يعلنها الغرب مقارنة بالممارسات: “ما رأيك بهذه الإنسانية؟! افعلي مثلي ولا تعطي هذه المصطلحات أو ما شابهها اهتماماً على الإطلاق. وجدت أن الناس بشكل عام إنسانيون عندما يتوافق الأمر مع مصالحهم، والكفار هنا أيضاً يؤمنون بهذا المبدأ ويرون هذا الرأي.”ص١٥٩
نظرتها إلى القانون الذي يتدخل في خصوصيات الناس وإلى الحرية التي يسرقها النظام الأوروبي باسم القانون من الأفراد والشعوب: “إن المرء هنا في أوروبا يولد ويُربى لكي يخضع ويستسلم لآلاف القيود التي تمس الحرية الشخصية وتجعل من الفرد مجرد رقم. لا يتناسب معنا، نحن الشعوب التي تعيش بالفطرة، هذا التقييد، فالقلب لدينا يأتي أولاً ثم تأتي بعده القوانين الباردة.” ص٨٢ وإلى ماهية الحضارة وحقيقتها: “كم مرةً، آه كم مرة، كانت تحلق أفكاري إلى جزيرتنا الحبيبة، وكنت أحسدكم كثيراً على جو السماء الصافي دائماً وعلى طريقة حياتكم البسيطة والمتحررة تماماً من كل التعقيدات التي تسمى هنا بمكاسب الحضارة وروح الإنسان الوثابة.” ص١٤٢ ولنقرأ هذا الاقتباس الطويل لنرى كيف تنظر الأميرة إلى الحياة الأوروبية، ولنقارنها بحالنا اليوم وقد طغت الرأسمالية وتصرفت فينا:
“آه كم مرة تمنيت أن أعيش بعيدة عن الحياة الأوروبية المعقدة، حيث لا توجد شخصية الفرد إلا نادراً، كل شيء هنا كالآلة، والفرد ليس أكثر من مجرد رقم من بين الملايين. من كل مائة من السكان هناك ٩٥٪ منهم طموحون جداً، وويل لمن لا يلحق بهم، لأنه سيغرق ببساطة. وكل أحد منهم يجب عليه بشكل أو آخر أن يتعلم كثيراً، حتى يكون بشكل عام كفؤاً وجديراً، بغض النظر إن كان يرغب في ذلك أو يطيقه، فالكل تحت هذا النظام، ويكون تحت المراقبة الصارمة، كل أمة هنا تمثل مدرسة كبيرة ومواطنوها يشكلون التلاميذ، بالطبع دون أن يُشعر بذلك، ومع ذلك فكلمة “الحرية” في فم كل طفل. والذي لا يريد أن يظل طول حياته موزع صحف أو كانس شوارع أو مكسر حجارة فيجب عليه أن يتسلح هنا بالعلم بشكل مناسب حتى يكسب الاحترام، ولا يوجد استثناء لأطفال من أم عربية، لا من المنظور الاجتماعي ولا القانوني” ١٨١
وهذه مجرد أمثلة صغيرة على الكم الهائل من الآراء الصادقة التي جعلتني أتوقف كل صفحتين تقريباً لأتأمل تلك الملاحظات المذهلة في وضوحها وقرائتها الصافية.

الدين:
اتهمت الأميرة دوماً بالمروق من الإسلام، لكن بقراءة هذا الكتاب سندرك أي حالة روحية متسامية ومترفعة كانت تعيشها الأميرة في دينها الجديد، كاستغرابها أمام القس الذي قام بتعميدها، والذي اكتفى بأن يسمع كلمة نعم على ما قاله لها بلغة لم تفهمها إطلاقاً، ومسيحية لا تعرف عنها أكثر مما هو موجود في القرآن: “قررت أن من الأفضل لي أن أظل مخلصة لديني القديم في البداية، على الأقل حتى أشعر بسلام داخلي، فلا شك أنه من الأفضل لي ألف مرة أن أكون مسلمة بدلاً من كوني غير مسيحية من القلب ولا مسلمة” ص٢٥ إنما علينا أن نرى أكثر من ذلك في إدراك تأملاتها العميقة في الدين عموماً وفي المسيحية الأوربية خصوصاً: “بدا لي كأن الدين هنا ليس أكثر من مجرد علم يُدرس ثم ينسى عند أول فرصة سانحة أو يتعرض للنقد كثيراً، أدركت هذا مراراً للأسف، وإلا فكيف نفسر هذا العدد الهائل من حالات الانتحار إذا كان الناس فعلاً يؤمنون بقضاء الله وقدره؟.. لأسباب تافهة كثيرة أخرى يلجأ الناس هنا مباشرة للانتحار.. هل كانوا سيفعلون ذلك لو أن لديهم فقط ذرة من الدين في نفوسهم؟ بالتأكيد لا.” ص١٠٥، إن تحليل الحاجة الإنسانية للدين ودوره في حياة الإنسان الروحية جلي واضح لدى الأميرة، وهذا مجرد غيض من فيوض تحليلاتها للدين عموماً والدين المسيحي خصوصاً والعلاقة الشخصية للإنسان مع الله، لننظر مثلاً كيف استقبلت تعارفها بواحدة من أعز الصديقات اللواتي تعرفت عليهن في ألمانيا كهدية إلهية: “قدر الله الكريم برحمته ولطفه أن يقدم لي في هذه المرأة الغريبة سنداً معنوياً لوحشة روحي… في الوداع قالت لي ناظرة إلي بإخلاص: حبيبتي أعتقد أننا نفهم بعضنا. آه نعم فهمنا بعضنا، لأنني من تلك اللحظة شعرت بتحسن حياتي الروحية تدريجياً.” ص١٣٤

تأملات أخرى:
تأملات الأميرة التي تبعثها في رسائلها لا تتوقف عند حد في الحياة الأوروبية وطريقتها وثقافتها ومسرحها وفنونها، يميزها الصدق مع الذات والثقة بالنفس وقوة الفكر والروح، وكما يعرف قراء المذكرات لمحة من ملاحظاتها على تربية الأولاد الأوروبية فسيجدون الكثير في هذه الرسائل حول التعليم الإلزامي الذي لا يكترث للتهذيب مثلاً والذي يثقل الطالب بالواجبات المدرسية: “كنت أشعر دائماً وبالرغم من كل الجهود التي تبذلها المرأة العربية إلا أنها تظل امرأة غير مناسبة لتكون أماً في ألمانيا ولأطفال فاقدي الأب وهم في سن المدرسة، ففي هذه البلاد لا يُعد كافياً أن يتعلم الأولاد في المدرسة فحسب، فبجانب ذلك يُعطون واجبات منزلية، بحيث لا ينفكون عن التعلم أبداً، فتوجب علي باستمرار أن أساعد الأطفال الباكين في وظائفهم المدرسية، والتي لا أعرف بنفسي أكثرها في الغالب” ص١٥٣
كما تتعرض الأميرة لوضعية المرأة العربية في أوروبا عموماً وتكيفها مع الأوضاع الجديدة عليها، وكذلك على مسألة الاستثمارات المالية المختلفة التي على المرء أن يضع فيها أمواله وهو جاهل تمام الجهل ومتكل تماماً على سماسرة ماليين يعبثون بأمواله لحساباتهم، وعن الضغط الاقتصادي المرهق على الفرد الأوروبي الذي يصبح أمامه الثري الشرقي التقليدي بالمقارنة فقيراً أو متوسط الحال من كم الاحتياجات والأشياء غير الضرورية التي عليه القيام بها وتوفيرها.
لننظر أيضاً لتحليل الأميرة للصحافة في حادثة نشر صورتها في الصحافة البرلينية على إثر حضورها كشاهدة في جلسة محاكمة: “كنت مندهشة في اليوم التالي لوجود مقال عني في جريدة الصباح، تحدث عني كثيراً ووصف حتى ملابسي البسيطة، كيف يمكن أن تُملأ أعمدة الجرائد الطويلة والمملة إذا لم يُلجأ إلى مثل هذا الابتذال؟! لو ظل السادة المحررورن والمراسلون على الحقيقة دائماً، لمشى كل شيء على ما يرام. ولكن!” ص١٦٨

المشاهد المؤثرة:
أنتقل لبعض المشاهد المؤثرة واللحظات الرمزية المفارقة في الرسالة والتي لا يملك القارئ أمامها إلا التأثر الشديد، عدا عن فاجعتها الرئيسية بزوجها، من ذلك عودة أبنائها ذات يوم من المدرسة: “بالكاد يبدأ أطفالي أيامهم المعدودة في المدرسة حتى جاؤوني مهرولين، ومثيرين القلق والخوف فيّ، فاجأوني بسؤالهم غير المتوقع تماماً: “ماما هل صحيح أنك أميرة حقيقية، أرجوك أرجوك أخبرينا؟”! بماذا ينبغي الآن أن أجيبهم، لم أستطع إلا أن أضمهم إلى صدري بحزن. ويبدو أني قد أصبتهم بالعدوى، إذا أخذوا يبكون، وحتى الغداء لم يُسرِّ عنهم سريعاً” ص١٥٥
لحظة أخرى مؤثرة جداً ورمزيتها عميقة، وهي لحظة زيارة طاقم سفينة (المجيدي) الزنجبارية التي جاءت للصيانة في ألمانيا، وتلك السفينة فيما بعد غرقت مع طاقمها، لكن لنقرأ هذه المقتطفات المتتابعة من النص الذي تروي فيه الأميرة تلك الزيارة:
“ما إن تبادلنا السلام باللغة العربية حتى ارتمى الرجال جميعهم بين قدمي يقبلون الأرض تبجيلاً، وهم يبكون بحرارة! أريد أن أزعم غير الحقيقة أن عيني في هذه اللحظة لم تدمعا لهذا المشهد، لكن كيف يمكن لذلك أن يكون!.. كنت أرى في أولئك الناس شيئا واحداً فقط، هو أنهم من زنجبار، أعترف لك بكل صراحة أن وقع زيارة مئات من الرؤساء المتوجين الغرباء ليست بذلك الأثر في نفسي مثل ما لهذه الزيارة لهؤلاء الناس البسطاء” ص١٠٨
“هتف كثير منهم: سيدتي كيف تستطيعين العيش في بلد كهذا؟ نرجو منك أن تعودي معنا، فالجميع هناك يسأل عنك” هذه الكلمات حطمت قلبي، ولم أستطع إلا أن أهز رأسي للإجابة عن سؤالهم وبحزن قلت لهم: ليس بعد، ليس بعد” ص١١٠
“وكان يجب علي في كثير من الأحيان أن ألعب دور الصراف، لأنني مثلما يقولون لم أكن فقط سيدتهم بل بمكانة أبيهم وأمهم وأقاربهم في هامبورج، وبعض منهم كان يترجاني تقريباً كل يوم ويبقى بجانبي طول الوقت وكأنه حاضن أطفال، للعودة معاً إليكم.” ص١١١
نظرة أخيرة:
الكتاب رائع بحق، وهو جزء ثانٍ لكتاب مذكرات الأميرة العربية الذي حضي منذ نشره بالتقدير في كافة دول العالم، وهذا الجزء الثاني منه بنفس المستوى من ناحية القيمة التاريخية والقيمة الأدبية كذلك، فنحن أمام واحدة من أكثر السير الذاتية صدقاً ورهافةً ورفعة وحيوية، وتمنيت لو أن الكتاب أخذ من عنوان الجزء الأول الذي نشر في حياة الأميرة ليكون رسائل أميرة عربية، لكن كما يبدو أن السنين فعلت فعلها، لكن الكتاب يبقى أكثر الرسائل إلى الوطن صدقاً وقدرة تعبيرية قوية ودفاقة، وإذا كنا لم نستطع أن نعرف هوية الصديقة التي تبعث إليها الأميرة رسائلها فإننا نستطيع أن نجعلها رمزاً بالفعل للوطن البعيد.
تمنيت كذلك من المترجم الذي قام بجهد كبير وجميل في ترجمة هذا العمل إلى العربية، لو أنه التفت للأمثال التي توردها الأميرة والتي من الواضح أنها من مجموعة الأمثال العربية المتداولة شعبياً، وهو الخبير بالثقافة العمانية الشعبية لو أنه أعاد الأمثال لصورتها الأصلية كما في هذه الفقرة:
“كنت أضطر إلى خوض مناقشة طويلة حتى أؤكد لهم وجود جزيرتنا الحبيبة، وكنت أتساءل إن كان الناس قد صدقوني بعد هذا النقاش، وكنت أستحضر كثيراً المثل المعبر لدينا “من لا يعرفك قد لا يقدرك أيضاً” ص١٢٣
ولو أن المترجم أعاد الأمثال إلى صيغتها العربية الأصيلة في الترجمة كما في المثل أعلاه، لكان أبلغ وأقوى، فهذا المثل أعلاه بظني ليس إلا ترجمة مزدوجة للمثل المعروف الشهير: اللي ما يعرفك يجهلك.
لكن ذلك لا ينتقص من قيمة الجهد الكبير والرائع الذي بذله المترجم في نقل هذه الوثيقة الأدبية المميزة من لغتها الألمانية إلى العربية، ولا أظنني أخطئ في القول أن هذا الكتاب واحد من الكتب العمانية الأهم من بين ما نشر هذا العام.

الأربعاء، 1 يونيو 2016

رسائل إلى الوطن… الغربة والحنين ثمنا للحب حكاية الأميرة العمانية سالمة بنت سعيد بن سلطان

د.جوخة الحارثي،، صحيفة القدس العربي 1/6/2016

«عادة ما يخطئ المرء في طريقه عندما لا يفهم لغة البلد». الأميرة سالمة
هل تغير دينك من أجل الحب؟
وكيف سيتحول داخلك حينها إلى الدين الجديد كما تحول ظاهرك؛ هل سيتطابق مظهرك مع مخبرك؟ الأميرة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان، ابنة سلطان عُمان وزنجبار، التي أحبت جارها الألماني في زنجبار وهربت معه إلى بلاده، وغيرت دينها لتتزوج به، تجيب عن هذا السؤال المرير بشجاعة وألم.
تكتب الأميرة لصديقتها المفترضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: «إنني ظاهرا مسيحية، فقد كنت في داخلي مسلمة أيضا. وبدا لي مزريا جدا أن أفعل شيئا مخالفا عما أنا عليه في الحقيقة». كما تصف بصراحة مشهد دخولها الكنيسة باعتبارها مسيحية لأول مرة، حيث أصابها ضيق الصدر، واستنكرت وجود الصور في الكنيسة، إذ رأتها تتعارض مع الخشوع، واعتبرت أن تسول المال أثناء الصلاة تدنيس وانتهاك. وإلى جانب الأزمة الدينية التي عانت منها الأميرة، عانت من أزمة اللغة، إذ ظلت لوقت طويل لا تستطيع التحدث إلا مع زوجها الذي كان يجيد السواحيلية، وسبَّب لها هذا شعورا بالعجز وآلاما مضاعفة للغربة.
لقد عرف القارئ العربي الأميرة سالمة في الجزء الأول من مذكراتها، الذي صدر بالألمانية عام 1886، ومن ثم بلغات عديدة منها العربية، ولكن ذلك الكتاب كان مكرسا للحديث عن طفولتها وصباها في زنجبار العمانية آنذاك، وعن الحياة في قصور السلطان، ورأينا فيه الدفاع المجيد عن حياة الشرق، أما الجانب الآخر من حياتها، أي الستين عاما التي عاشت أكثرها في الغرب، فبقي مجهولا حتى مطلع هذا العام، حين نشر الباحث العُماني زاهر الهنائي ترجمته عن الألمانية للجزء الثاني من المذكرات بعنوان «رسائل إلى الوطن» عن منشورات الجمل. لقد ظلت الرسائل مجهولة إلى أن قام الباحث الهولندي E.van Donzel بنشرها سنة 1993 مترجمة إلى اللغة الإنكليزية، ولم تظهر بلغتها الأصلية حتى عام 1999 عندما نشرها السفير الألماني الأسبق في تنزانيا هاينس شنيبن. تتضمن الرسائل مذكرات سالمة وتفاصيل حياتها في ألمانيا، من بداية انطلاق رحلتها من عدن عبر البحر الأحمر باتجاه هامبورغ في ألمانيا عام 1867 وحتى انتقالها للعيش في برلين منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر.
نرى المشاهد في الكتاب بعين الكاتبة، العين المصدومة، عين الأمــــيرة الشرقيــــة المرفَّهـــة وهي تصطدم بالسحنات الغربية المتشابهة والسلوكيات العجيبة والثلج والغرف الضيقة المنخفضة والأثاث غير المريح والأبواب والنوافذ المغلقة والطعام السيئ، فتواجه نفسها بالسؤال العصيب: هل أريد أن أقضي حياتي كلها هنا؟
لعله السؤال الذي يواجهه كل مهاجر أو لاجئ، ولكن في حالتها كان له خصوصية وأي خصوصية، فالقفزة الهائلة من حياة الأميرات في بلاد الشمس إلى حياة ربة بيت ألمانية، تركت دينها ولغتها وأهلها وقصورها وعبيدها وراء ظهرها، قفزة زلزلت كيان الصبية التي بالكاد قد وصلت لأوائل العشرين، حين دفعها العشق لهذه الطريق التي لم تتصور أهوالها.
إنها تراقب نفسها، تراقب تحول شخصيتها من الصبية القوية الأكثر جرأة بين قريناتها إلى امرأة مذعورة من الوسط الجديد والملل وعجز اللغة، «كل مرة يغادر زوجي المنزل ذاهبا إلى عمله تصيبني قشعريرة، إذ يعتريني خوف رهيب لا يوصف من التفكير في أن عليّ أن أعيش في هذا الوسط الجديد تماما». تراقب سالمة نفسها وهي تنطوي على ذاتها، تتهرب من الحفلات الطويلة وأحاديث المائدة الصاخبة، ونظرات الفضوليين، وتبكي لمشهد رمانة في يد زوجها تذكرها بفاكهة بلدها. إن الشخصية الفذة التي طالعتنا وأبهرتنا في الجزء الأول من المذكرات، شخصية الفتاة التي تتعلم الكتابة خلسة، وتشاكس الجميع، وتشارك في مؤامرات السياسة وهي دون العشرين، تتحول في هذا الجزء من المذكرات إلى شخصية مختلفة تماما، تكاد أن تكون محطمة تحت وطأة الغربة الروحية واللغوية والثقافية، في السنوات الثلاث الأولى، ثم بكارثة وفاة زوجها وتدهور أحوالها المادية في السنوات اللاحقة. أقول تكاد، ولكنها لم تتحطم قط، فروح الأميرة القوية وعزيمتها الفذة وصفاؤها الفطري يأبى إلا أن يطل بقوة بين ركام الخوف والعوز والوحدة المريرة والعزلة اللغوية.
لقد اختارت الأميرة سالمة بشجاعة فائقة أن تبقى في ألمانيا بعد وفاة زوجها لينشأ أبناؤه في بلاده وعلى تقاليدها، على الرغم من أنها فقدت كل نصير وكل أمل هناك، وكانت العودة إلى زنجبار هي أملها الوحيد في الحياة، بل قاومت فكرة الانتقال حتى إلى إنكلترا من أجل التمسك بهذه المثالية العالية.
وقد انتهى بالأميرة المطاف إلى أن تبيع مجوهراتها لإطعام أطفالها الخبز الأسود! كم عبَّرت عن ذلك بألم وأنفة: «الحرص المخيف على القرش الحقير، ليتكفف به الإنسان، كان شيئا مهينا ومذلا لي». ونرى آثار هذه العزيمة في تعلمها الكتابة بعد وفاة زوجها، ثم في مواظبتها على دروس في العلوم والفلك، وإصرارها على رعاية أطفالها بنفسها رغم نوبات المرض والإنهاك العصبي التي عانت منها لســـنوات بعــــد وفاة زوجها، تلك الحادثة الأليمة التي تحتل فصولا عدة مؤثرة للغاية من الكتاب، إذ تصف الأميرة سالمة تفاصيل فقدها لزوجها بحادث سقوطه تحت عربة القطار، بعد ما لا يزيد عن ثلاث سنوات على زواجهما، وفي هذه الفترة العصيبة أدركت معنى أنها فقدت الأهل والوطن والثروة في غضارة شبابها، وبموت زوجها فقدت كل سبب يبقيها في ألمانيا، كما فقدت الرغبة في الحياة كلها، ولكن كان عليها المقاومة من أجل أطفالها الثلاثة، والانتقال من مدينة ألمانية إلى أخرى وشبح الفقر يطاردها.
يقدم الكتاب أرضا خصبة لدراسة الثنائيات بين الشرق والغرب، وفيه تناقش الأمـــيرة سالمة قضايا عديدة منها «التناقض الأوروبي» في قضية تحرير العبيد، ومصير الأموال التي تُنفــــق في سبيل ذلك، من قبل أناس» لا يعلمون عن الزنوج في أفريقيا واحتياجاتهم إلا كما نعلم أنا وأنت عن الكواكب الأخرى». وتلتفت في هذا السياق إلى الفارق الشاسع بين الأغنياء والفقراء في الشمال، واستعباد الخدمة العسكرية، و«شيطانية» أن يحارب المسيحيون في أوروبا بعضهم بعضا.
إنها توضح بدقة وحكمة سبب ضعف تأقلمها مع الغرب: «إن المرء هنا في أوروبا يولد ويربى لكي يخضع ويستسلم لآلاف القيود التي تمس الحرية الشخصية وتجعل من الفرد مجرد رقم. لا يتناسب معنا، نحن الشعوب التي تعيش بالفطرة، هذا التقييد، فالقلب لدينا يأتي أولا ثم تأتي بعده القوانين الباردة». إن الأميرة الممزقة بين عالمين ودينين وثقافتين تجد ببساطة إن عدم حمد الله على المائدة شيء غريب جدا، فقد كانت تعتقد أن جميع البشر بغض النظر عن كونهم متدينين أم غير متدينين، فقراء أو أغنياء، أشرافا أو وضيعين، يدينون بالشكر لله وحده على رعايتهم وإيجادهم. إنها كما عبرت عن نفسها بصدق وأسى: «كنت أعيش في الحقيقة حياتين، روحية محوطة بسماء زرقاء أبدية، تنتعش فيها صوركم الحبيبة (أحبابها في الشرق) ، ولكن الحياة الأخرى هي مثلما قدرت لي في الحقيقة هنا».
إن سالمة – في وحدتها وغربتها- أميرة حقيقية، فهي لا تحمل همَّها الشخصي وحسب، بل هم الصورة عن شعبها كله، وفي إعدادها لأول حفل في بيتها كان ما يشغلها هو أنها لو أخفقت لن تُنتقد لشخصها فقط وإنما لسذاجة الجنس الذي تنتمي إليه، الجنس الشرقي. إن القارئ لا يملك إلا الإعجاب بروح النزاهة العالية، والمثالية الرفيعة التي تحلَّت بها الأميرة وحافظت عليها في أحلك الظروف، وإن كان تواضعها بيِّنا وهي تحكي عن دهشتها من المسرح، فإن آراءها القوية تجاهه تكشف عن نفس معتدة وواثقة.
كما تكشف الأميرة عن إنسانة رحيمة ترى أن تركها أطفالها من أجل رحلة للتنزه هو تصرف عديم الشفقة. وقد ظلت كل أفكارها ومشاعرها منصرفة إلى زنجبار حتى بعد ولادة طفلتها الثالثة «كنت حقا لا أرى أحدا في المنام سواكم ليلة إثر ليلة».
ولا بد في الختام من الإشارة إلى العربية الرائقة التي ترجم بها زاهر الهنائي الكتاب، وإلى مقدمته المهمة للترجمة، وملحق الصور والوثائق، وبانتظار ظهور المزيد من كتاباتها ومقالاتها بالعربية ستظل الأميرة العمانية الزنجبارية رمزا لامرأة عربية قوية اختارت الحب. وقد صدقت إذ قالت:
«العالم الذي لا مشاعر له ليس لديه تفهم صحيح لما نشعر به ونحسه في أعماقنا».

الأربعاء، 20 أبريل 2016

مقال نادر(1) للسيدة سالمة بنت سعيد فـي إحدى الصحف الألمانية (يعود إلى سنة 1886) في مجلة نزوى العدد 86

زاهر الهنائي
في إطار اهتمامي بالإنتاج الكتابي للأميرة سالمة بنت سعيد (1844-1924)، عثرت على مقال نادر لها في إحدى الصحف الألمانية المعروفة آنذاك والتي تدعى بـ دويتشه كولونيال تسايتُنج(2)، التي كانت تصدر أسبوعيا من برلين، وتختص بقضايا المستعمرات الألمانية. شاركت سالمة بهذا المقال في عدد الجريدة الصادر بتاريخ الأول من أكتوبر سنة 1886، وهي السنة نفسها التي نشرت فيها مذكراتها المعروفة(3). ويبدو أن سالمة كانت تقتبس بعضا من الكلام الوارد في المقال مما ورد في مذكراتها وقد أشرت إلى ذلك في الهامش. إلا أن هناك إضافات أخرى أيضا في الموضوع لا توجد في نص مذكراتها، قدمت سالمة في المقال بعضا من الملاحظات عن مناخ زنجبار في زمانها، وكان منطلق المقال الاعتراض على فكرة السمعة السيئة لمناخ زنجبار، حيث أرجعت الإشكال في ذلك إلى أمر ذاتي وليس إلى طبيعة المناخ هناك، وتحديدا طريقة حياة المرء ومدى اتباعه للمبادئ الصحية. كما أنها أشارت إلى موضوع طريف وهو إشكالية الطبيب الذكر في مكان الحريم آنذاك ومدى صعوبة إجراء الفحوصات اللازمة، واقترحت أن يكون هناك طبيبات نساء يأتين إلى زنجبار ويزاولن عملهن، وأبدت استعدادها لتعليم اللغة السواحلية والعربية لأي طبيبة قرّرت المجيء إلى زنجبار.
تحتفظ مكتبة جامعة برن السويسرية بنص المقال الأصلي(4)، ويُحتمل أن إقامة ابنها سعيد رويته في سويسرا واستقراره فيها أثناء الحرب العالمية الأولى كان سببا لذلك.
تُعدّ مذكرات الأميرة ورسائلها(5) ومقالها وثائق مهمة لحياتها وأفكارها ووثائق أيضا لزمانها الذي عاشت فيه وتصوّرات الناس وأفكارهم، ولا سيما حينما كتبت بوعي حول موضوعات أغفلها كثير من كتب عن زنجبار، على قلتهم أيضا، وتلك الحقبة المزدهرة من الوجود العماني على الجزيرة. والمتتبع للمذكرات يجد بجلاء اهتمامها بتفاصيل ومظاهر قد تغيب، أو غيّبها من أرّخوا لذلك المجتمع والزمان، وترصدها بعفوية مستفيدة من المنهج الأوروبي وقتها في طريقة الكتابة لهذا اللون. والأمر هنا في المقال هو نفسه والطريقة ذاتها، ملاحظات وانطباعات عن جزئية لم ينتبه له المؤرخ العربي “العماني” في ذلك الزمن ولم تكن في وعيه ليرصدها، موضوع المناخ والأجواء في زنجبار، لكن سالمة وهي تعيش في ألمانيا كان وعي الناس هناك مختلفا فأثر في طريقة ونوعية تسجيلاتها ومشاهداتها. إذن من هنا تكمن أهمية هذه الكتابات التي تركتها لنا.
أعرض هنا بداية الترجمة العربية للمقال وسأرفق بعد ذلك الأصل الألماني، الذي كتب بالطريقة القديمة بالآلة الطابعة:
بعض الملاحظات حول المناخ في زنجبار
عُرف مناخُ زنجبار منذ زمن بأنه مضرّ جدًّا للأوروبيين وأقرب لأن يكون مُهلكًا لهم. ويبدو أن حالات الوفيات الكثيرة التي تعرّض لها القادمون والمهاجرون الأوروبيون أكدت هذا الرأي السلبيّ المنتشر بشكل عام، إلا أن هذا الحكم المسبق يتجافى مع الحقيقة بطبيعة الحال؛ فمناخ زنجبار هو أفضل مما يُعرف عنه؛ إذ إنّ حالات الوفيات المبكرة التي يروح ضحاياها الكثير من الأوروبيين هناك هي أمر شخصي تقريبا، ويمكن تجنبها بكل سهولة بكثير من الحذر واتّباع حمية غذائية معتدلة. ولا يُخشى على أحد منهم أيّ مرض مهلك إطلاقا ما دام ينظم حياته وفق أسس الرعاية الصحية الصحيحة. نعم، باستثناء حمّى التأقلم الخفيفة والمؤقتة، التي عادة لا ينجو منها أي أوروبي. وأعني بذلك التزام حمية غذائية خفيفة ينبغي أن تكون نباتية في الغالب، فكلما كان التقليل من اللحم والإكثار من تناول الفاكهة اللذيذة التي تهبها الأرض بوفرة، عاش المرء هناك بصحة أفضل. ولكن قبل كل شيء ينبغي تجنب الإفراط في تناول المشروبات الروحية على نحو صارم؛ لأن هذا هو السبب الرئيسي لحالات الوفيات الكثيرة بين الأوروبيين في زنجبار؛ ففي الواقع تُمزّج الخمورُ والجعة المستوردة من أوروبا إلى المناطق الحارّة المداريّة بالكحول في ظروف غير مناسبة للصحة لتبقى فترة أطول، وعندما يضاف إلى هذه الصفة السلبية إفراطُ تناول هذه المشروبات؛ فحتما ستكون النتائج سيئة ومضرة بالصحة ولا يمكن تجنّبها.
أَعرِف تُجّارا أوروبيين في زنجبار عاشوا هناك أصحّاء لعشر وإحدى عشرة سنة بلا انقطاع (ربما قطعوا إقامتهم وعادوا إلى أوروبا لنصف سنة فقط)، وأنا مقتنعة كثيرا بأنه يمكن لكل أوروبي أن يحافظ على كامل صحته مدة حياته، باتّباع حِمْية غذائية معتدلة، على النحو المذكور سابقا، مع تناول غير مفرط للمشروبات الروحية أو تجنبها تماما، وقبل كل شيء عليه أن يراعي أن يكون ما يُحمَلُ إلى بيته من الماء مِن قِبَل خَدَمِه هو الماء الجيد فقط وليس المالح أوالماء الملوث بكثير من المواد العضوية من آبار المزارع.
ستكون نِعمةٌ، سواء على الأوروبيين وأيضا على كل السكان الأصليين، لو تم الحدّ من التناول المفرط للمشروبات الروحية المهلكة جدّا، والتي لا يُضاهي سوءُ آثارها وباءُ الطاعون، عن طريق فرض ضريبة مرتفعة على استهلاكه واستيراده. ويُضاف إلى جانب الامتناع قدرَ المستطاع عن المشروبات الروحية والتزام حِمية غذائية معتدلة خفيفة، المحافظةُ على حركة الجسم النشطة والمنتظمة يوميا في ساعات الصباح الباكر، وتَتَمثّل الآن في ركوب الخيل والمشي والجمباز والسباحة، والتي تؤدي إلى نتائج أفضل للأوروبيين المقيمين في زنجبار. فالمراعاة المستمرة لهذه القواعد تُمكّنه من أن يتمتع بكامل حالته الصحية طيلة عشرات السنين، كما لو كان في وطنه في أوروبا.
أما بالنسبة للعرب المستوطنين في زنجبار فيمكنهم أن يقدموا نموذجا للأوروبيين فيما يتعلق بالاعتدال؛ فلدى وجبتيهم الغذائيتين اليوميتين يتناولون القليل من اللحم والكثير من المخبوزات والفواكه، ويشربون الماء الصالح فقط وماء جوز الهند المنعش اللذيذ (مادافو بالسواحلية: المحتوى المائي لجوز الهند الغضّ).
ولو أصيب العربي بأحد الأمراض فإنه يبحث للعلاج مما بين يديه من موادّ متاحة في البيت، أو يستعين بِرُقًى منطوية على الأسرار، والتي يُوصى بها من قبل من يُسمَّون بـالبَصّارين (العَرّافات).
للأسف العربي يثق كثيرا بالحِجامة وفصد الوريد ويعتبره نوعا من الدواء الشامل، كما تَعوّد أن يُصنِّف كلّ الأمراض الباطنية إلى صنفين، أوجاع الرأس وأوجاع البطن، فلدى أوجاع البطن يميل كثيرا إلى تدليك الأعضاء والعضلات، والذي في الحقيقة يسبب شعورا بالتحسن الكبير وثبت أنه مهدئ لكثير من أنواع أوجاع البطن. تمرّست إماؤنا منذ زمن على تدليك الأعضاء حتى بلغن نوعا من المهارة في ذلك.
ولأدوية التقيؤ قيمة أيضا عند العربي، إذ تتوافر له تشكيلة متنوعة من الأعشاب التي تُستخدم لهذا الغرض. فمجرد اشتمام رائحة ذلك الخليط البشع من الأعشاب المطبوخة مع بعضها يمكن أن يؤدي الغرض. وفي حالات الأمراض المستعصية يلجأ المسلم المُتديّن أحيانا إلى عبارات من القرآن يكتبها إنسانٌ، عُرِف عنه التُّقى، على صَحْنٍ أبيض بمحلول الزعفران ثم يَنحلّ الخط بماء الورد، وهذه الخلطة تُعطى للمريض ليشربها. إذ يجب أن يتناول هذا الدواء ثلاث مرات يوميًّا، في الصباح والظهر والمساء، ويجب الانتباه عند ذلك ألا يتساقط من هذا السائل المبارك أي قطرة على الأرض.(6)
ولو استُدعي طبيبٌ أوروبيّ إلى مكان الحريم فستُفرَض قيودٌ مزعجة جدّا لعملية فحص المريض، فعلى سبيل المثال، لا يُسمح له أن يجُسّ نبض المريضات أو أن يرى لسانهن، وفوق ذلك لا يُسمح له أيضا أن يرى الوجه الذي يجب أن يكون مغطًّى بشكل كثيف أثناء الفحص، ونتيجةً لهذه المعوّقات التي تعترض الأطباء الرجال في مكان الحريم، فإنه يكون أمرا مستحبا ومرغوبا فيه كثيرا أن تقرر الطبيبات اللاتي يتخرجن الآن كثيرا في أوروبا وأمريكا المجيء إلى زنجبار والعمل كطبيبات نساء، هناك سيجدن بالتأكيد العمل مربحا، ومع التحليّ باللطف والمجاملة لن يجدن صعوبة في كسب قلوب الشرقيّات، وسوف يجدن سريعا العمل مجزيا، وبالتأكيد ستحدثهن أنفسهن أنهن صنعن جميلا، ولكن يجب على الواحدة منهن أن تفهم اللغة العربية والسواحلية قليلا. ولو أن إحدى الجمعيات قرّرت إرسال شخصية مناسبة لهذا الغرض إلى زنجبار فسأكون مستعدة بكل سرور لتعليمها اللغتين؛ لأرد بعض الجميل إلى وطني الحبيب من خلال هذا الجهد القليل(7).
برلين، 1886
إميلي رويته بالولادة أميرة عمان وزنجبار”
هوامش:
1 ربما يكون المقال الوحيد لها، فقد اجتهدت كثيرا في البحث عن مقالات أخرى لها فلم أظفر إلا بهذا المقال.
2 Deutsche Kolonialzeitung
3 Memoiren einer arabischen Prinzessin, Berlin
Friedrich Luckhardt, 1886.
4
https://www.swissbib.ch/ecord/094271887?expandlib=IDSBB-B400#holding-institution-IDSBB-B400
5″رسائل إلى الوطن” هو كتاب سالمة الآخر، وقد صدرت ترجمته العربية حديثا عن منشورات الجمل، ظلت الرسائل مجهولة إلى أن قام الباحث الهولندي E.van Donzel بنشرها سنة 1993 مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، ولم تظهر بلغتها الأصلية حتى عام 1999 عندما نشرها السفير الألماني الأسبق في تنزانيا هاينس شنيبن. تتضمن الرسائل مذكرات لسالمة وتفاصيل حياتها في ألمانيا من بداية انطلاق رحلتها من عدن عبر البحر الأحمر باتجاه ألمانيا وحتى انتقالها للعيش في برلين منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر.
6 ينظر: مذكرات أميرة عربية، د.سالمة صالح، ط2، 2006، منشورات الجمل، ص252
7 نفس المرجع، ص262

الاثنين، 14 مارس 2016

"رسائل إلى الوطن" جزء ثان من مذكرات أميرة عربية (النشرة الثقافية لوكالة الأنباء العمانية)



مسقط في 14 مارس /العمانية / صدر عن منشورات الجمل الجزء الثاني من مذكرات أميرة عربية حمل عنوان "رسائل إلى الوطن" للسيدة سالمة بنت السيد سعيد بن سلطان. نقل الكتاب من الألمانية إلى العربية زاهر الهنائي. وظل هذا الكتاب غائبا عن الترجمة إلى اللغة العربية رغم أن الجزء الأول من المذكرات لقي رواجا كبيرا في الشرق والغرب عندما نشرت طبعته الألمانية عام 1855 نظرا لما حوته تلك المذكرات من كشف الكثير من تفاصيل الحياة الشرقية التي كانت غائبة عن الأوروبيين.
    وكتاب "رسائل إلى الوطن" هو الكتاب الثاني للأميرة سالمة، وهو تكملة لمذكراتها، ويتضمن تفاصيل حياتها في ألمانيا، منذ لحظة انطلاق رحلتها إلى الشمال من عدن (يونيو 1867) عبورا بالبحر الأحمر، وتنتهي الرسائل عند انتقالها للعيش في برلين، بداية الثمانينيات من القرن 19 كما يذكر المترجم زاهر الهنائي.
وتتناول الرسائل حسب مقدمة المترجم تفاصيل حياة سالمة حيث كانت الرسائل سردا متدفقا بلا انقطاع، أظهرت فيه المعاناة الصعبة والواقع الأليم للأميرة من خلال ثلاثة مشاهد رئيسية. المشهد الأول ما قبل الفاجعة، والمشهد المركزي الفاجعة، والمشهد الأخير ما بعد الفاجعة، وقد خيم على جميع المشاهد بلا استثناء جو الحزن والألم ومرارة الغربة والحنين إلى الوطن والاغتراب الروحي.
وحول سبب تأخر صدور الرسائل يقول الهنائي "عندما وجد أولادها مخطوط الرسائل في تركتها، واطلعوا عليه أصابهم الذهول مما سجلته أمهم من مذكرات أليمة ومعاناة مريرة، فالرسائل تحكي تفاصيل ذلك الواقع الأليم الذي تعرضت له سالمة بعد فقد زوجها وتكشف الظروف الصعبة التي مرت بها. ولذلك حصل بينهم خلاف في مسألة نشرها، فقد أبدت ابنتاها تحفظا على ذلك، وكانت حجتهما أن نشر الرسائل سيظهر خصوصية الأم إلى العلن، ومن باب إنساني ينبغي عدم فعل ذلك، أو على الأقل ينبغي إجراء بعض التعديلات وحذف ما يلزم. يبدو أنه تم الاتفاق بين الإخوة بعد ذلك إلى أن تسلم مخطوطة الرسائل إلى المستشرق الهولندي بجامعة لايدن البروفيسور سنوك هُرْخرونيه. وفعلا قام ابنها سعيد بتسليمها إليه سنة 1929 مع ملاحظة كتابية نصها: "يُمنع نشر "رسائل إلى الوطن" دون إذن قبل 1 يناير 1940!". وهكذا بقي المخطوط بعيدا عن النشر حتى قام الباحث الهولندي بنشرها سنة 1993 باللغة الإنجليزية مع سائر كتاباتها الأخرى وهي المذكرات ونص قصير من عشر صفحات تقريبا تكملة لمذكراتها تحكي فيه تفاصيل رحلتها الثانية إلى زنجبار بعد موت أخيها برغش 1888، ونص قصير أيضا عن عادات وتقاليد سورية رصدت فيه الحالة الاجتماعية آنذاك. ثم قام بعدها السفير الألماني الأسبق في تنزانيا هاينز شنيبن بنشر الرسائل مستقلة سنة 1999 مع مقدمة وخاتمة طرق فيها قضية تحول سالمة من السيدة سالمة إلى إميلي رويته وأوضح أهمية الرسائل باعتبارها وثيقة لحياة سالمة وعصرها (1867-1884)، كما كشف عن المصادر التي استند إليها في عمله، وهي مادة جيدة للدارسين والمهتمين بسالمة وإرثها الكتابي.
 
   وقال زاهر الهنائي إن رسائل السيدة سالمة لم تكن موجهة إلا إلى صديقة افتراضية  من زنجبار، ولو كانت صديقة حقيقية لما خاطبتها بلغة ألمانية لا تفهمها. ولكن سالمة كانت تريد أن توصل رسائلها إلى أولادها بعد موتها، ويبدو أنها أخفت عنهم في حياتها كل تلك التفاصيل المؤلمة، وتركت لهم معرفة ذلك والاطلاع عليه بعد وفاتها.
ويقول الهنائي إن السيدة سالمة حضرت بشكل كبير في الأدب الأوروبي وخاصة عند الألمان الذين اهتموا كثيرا بها وتجسد في نشر مذكراتها ورسائلها وترجمتها، كما كان لها حضور في أعمال روائيين لهم سمعتهم في الوسط الأدبي من أمثال الروائية الألمانية نيكولا تسي فوسلر في عملها الروائي "نجوم على زنجبار، 2010"، ورواية "دي كاديتن، طلاب الكلية الحربية، 1957" للكاتب إرنست فون سالومون، ورواية " زنجبار بلوز، أو كيف اكتشفتُ ليفينغستون، 2008" للروائي هانس كريستوف بوخ، والرواية الإنجليزية "ريح التجارة، 1982" لماري إم كيه، وقد ترجمت إلى اللغة الألمانية بعنوان "جزيرة في العاصفة"، وهناك عمل روائي آخر للكاتب والأديب السويسري لوكاس هارتمان بعنوان "وداع زنجبار، 2013".    
وقال الهنائي إن هناك الكثير من الكتابات التاريخية والسياسية التي تتحدث عن الفترة التي عاشت فيها السيدة سالمة والتي تزامنت مع القيصر فيلهلم الأول والثاني والمستشار بسمارك بشكل عام، متاحة بين أيدي القراء وتحوي الكثير من الوثائق، ومن أهمها كتاب يوليوس فالدشميت بعنوان: "القيصر والمستشار والأميرة، مصير امرأة بين الشرق والغرب، 2006"، وكتاب ليونارد نيسين ديترس بعنوان: "امرأة ألمانية في الخارج ومناطق النفوذ، 1913" يتحدث فيه أيضا عن السيدة سالمة، ولا ننسى أيضا كتاب السفير الألماني هاينز شنيبن "زنجبار والألمان، علاقة خاصة (1844-1966)". أما ما يتعلق بتركة سالمة الأدبية فهي ملك جامعة لايدن بهولاندا التي هي من ضمن مقتنيات المستشرق الهولندي صديق سالمة البروفيسور سنوك هروخرونيه، وهي متاحة أيضا، وتحتوي على جميع أنشطتها الكتابية التي نشرها الباحث الهولندي E. van Donyel ، وتتضمن أيضا رسائل وأجوبة بين سالمة وصديقها المستشرق ورسائل أخرى لها أيضا، وكذلك رسائل لأبنائها مع بعض الصور الوثائقية. كما تحتفظ بعض المكتبات الألمانية بنسخ من الطبعات الأولى للمذكرات ومخطوطات رسائل، قمتُ بنشرها في الكتاب مع ترجمة لها.
وإضاف الهنائي إن كتاب "مذكرات أميرة عربية" لم يحظ حتى الآن بترجمة تستحقها. فرغم الترجمتين اللتين تم نشرهما إلا أنهما لم تنظرا إلى المذكرات على أنها وثيقة تاريخية، ينبغي تقديمها للقارئ كما هي في الأصل دون زيادة عليه أو نقصان أو تحريف، فالقيسي الذي ترجم المذكرات لأول مرة عن اللغة الإنجليزية كان يتصرف في النص ويحاول تلطيف العبارات قليلا خوفا من أن يصدم القارئ، وقد بينت المترجمة سالمة صالح شيئا من ذلك في مقدمتها، ولكنها هي أيضا وقعت في الأمر نفسه وربما كانت تخشى على القارئ من الصدمة معتبرا أن ذلك ليس مبررا لتلطيف العبارة أو محاولة تخفيف وقعها عليه دون الإشارة في أقل تقدير إلى هذا التغيير في مضمون النص أو التنبيه على ذلك في مقدمة الكتاب.
/العمانية /ط.م

الأحد، 13 مارس 2016

مختارات من رسائل إلى الوطن،، للكاتبة رجاء الصارمي – نشر في ملحق شرفات 2/2016

 (طلبت مني مرارا أيتها الصديقة العزيزة أن أرويَ لك تفاصيل حياتي في الشمال وإذا كان ما يرضيك لم يتحقق حتى الآن فذلك بسبب خوفي من إعادة الذكريات بتفاصيلها في نفسي مرة أخرى).

هكذا استأنفت السيدة سالمة مذكراتها في رسائلها إلى الوطن، تلك الرسائل التي سجلت دهشة وقعت فيها امرأة شرقية، كان جل علاقتها بالغرب حب جمعها بتاجر ألماني في وطنها، وقدرها الذي حرك مركبها إلى المجهول، لتجد نفسها وحيدة من كل شيء، مجبرة على تحريك ذلك المركب بمجدافي ألم وخوف (هل كان الوضع مختلفا معي عندما ألقي جسدي أول الأمر في هذا الوسط؟ احتجت إلى سنين لأفيق من هول صدمة ما كان يحيط بي وما كنت أسمعه وأراه بمرور الوقت).
في حالة السيدة سالمة لم يعد الاندماج في المجتمع الغربي وعاداته أمرا اختياريا، ورحلتها من البحر الأحمر إلى بحر الشمال ستكون نهاية لبداية جديدة، سيُخدش حياؤها كثيرا وستتقزز من الأكل ولكنها ستلوذ بالصمت، فما عاد الكلام يجدي. تقول واصفة الرحلة على متن السفينة: (منذ عدة ليال ينام الركاب في الدرجة الأولى، الرجال والنساء كلهم جميعا، في فرشهم في القاعة، إن هذا النوع الجديد من الحرية لم يكن يروق لي كثيرا ولكن يُفعل هذا من باب التمدن ..أما الشيء الأجمل فقد كان المنظر في الصباح التالي عند الاستيقاظ؛ إذ الرجال جميعهم بقمصان النوم والسراويل البيضاء الرقيقة، ولا شيء آخر، والنساء جميعهن بقمصان النوم الإنجليزية الطويلة وتنورة تحتية رقيقة بيضاء، وجميعهن من دون جوارب طبعا).
مرسيليا هي أول مدينة أوروبية تطأها قدما السيدة سالمة كما عبرت عن ذلك، ولأن جسدها الشرقي لم يعتد إلا على الشمس الجميلة فغيابها كان كفيلا بأن يجعلها تتجمد من البرد (وعلى الرغم من أن وصولنا كان في شهر يونيو إلا أنني تجمدت من البرد، حتى أن السيدة اللطيفة والطيبة كثيرا c لفّتني بمعطفها؛ إذ لم أكن أملك أي شيء يدفئني…)
الآن سوف تتجه السيدة سالمة إلى هامبورج حيث ستعيش ثلاث سنوات وأكثر بقليل بجانب زوجها حياة مستقرة وستنجب أطفالها الثلاثة، ولكن الطريق إليها هو طريق إلى المجهول، وليس أصعب من المجهول سوى المسير إليه، تقول واصفة تلك اللحظات: (عندما غادرنا الفندق متجهين إلى محطة القطار ساورني قلق غريب رغبت بسببه في الصراخ عاليا؛ إذ بدا لي وكأني لن أرجع بعد الآن إلى الوطن أبدا، وأن كل الجسور تنهار من ورائي، وتحول صراخ روحي إليكم إلى آلاف الأصوات من جزيرتي الحبيبة التي تنادي جميعها بصوت واحد: «لا تذهبي أبعد من ذلك، عودي» دخلت مع نفسي في صراع رهيب، وبلا شعور ركبت القطار الذي يسوقني حثيثا إلى أرض مجهولة وإلى أناس غرباء عني تماما كما لو أني في عجلة كبيرة للوصول إلى مكاني المستقبلي في أسرع وقت ممكن، وهكذا اتجهنا إلى الشمال)
عاشت السيدة سالمة منذ ولادتها في بلاد ما عرفت غير الإسلام دينا، وظلت عصفورا يحلق بجناحين قويين، إلا أن كلمة (نعم) أثقلت جناحيه فما عاد يعرف بأي سماء يحلق على اتساعها. (أقول لك بكل صراحة، إياك أن تغيري دينك دون قناعة حقيقية، «قناعة»؟ نعم، بمن أعتقد؟ وكيف؟ لم يكترث أحد بعد ذلك لإيماني الحقيقي، كان يكفي القس على ما يبدو، بالدرجة الأولى أن يسمع كلمة «نعم» تأكيدا على ما قاله لي بلغة لم أفهمها إطلاقا عند التعميد ثم عند الزواج الذي تلاه، ولا شيء أكثر من ذلك. وبهذا اعتنقت المسيحية والباقي وجب علي أن أكمله بنفسي…)
وظلت السيدة سالمة تبحث عن سلام لروحها التي ما عادت تدري أي طريق تسلك (قررت من الأفضل لي أن أظل مخلصة لديني القديم في البداية، على الأقل، حتى أشعر بسلام داخلي، فلا شك أنه من الأفضل لي ألف مرة أن أكون مسلمة بدلا من كوني غير مسيحية من القلب ولا مسلمة). تقول واصفة لحظة دخولها الكنيسة للصلاة لأول مرة: (فطلبت من زوجي أن يصحبني إلى الكنيسة. وفي يوم من أيام الأحد ذهبنا إلى هناك وعندما كنت أمام الباب أنوي الدخول خالجني شعور كأنني أوشك على ارتكاب خطأ ما، ولكن الآن لا أستطيع فعل أي شيء سوى الدخول حتى لا أحرج زوجي وعندما جلست على مقعد بين أناس آخرين أصابني ضيق صدر لا يوصف …)
ما أكثر تشبثنا بالأحلام، فهي مخارجنا لكل شيء، ففرحا نقول حلما وتحقق، وحزنا نتمنى أن يكون حلما وينتهي، وبينهما نعلق في أحلام عدة. (قضيت الفترة الأولى في أوروبا وكأني في حلم، وتمنيت أن يكون لي بدل عينين وأذنين، عشر منهما؛ حتى أتمكن من استيعاب كل ما هو جديد وعجيب…ومع أنني لست ضعيفة بطبيعتي إلا أنني كان يتملكني الخوف قليلا. فقد بدا لي ذلك مخيفا، كل شيء، كل شيء، مختلف عما عندنا، المنازل والشوارع والملابس والأكل، ونعم حتى الهواء والناس، وتوجب علي تقبل واستيعاب الكثير بلا حصر ودفعة واحدة.)
لم تنقطع صلة السيدة سالمة في ألمانيا عن الوطن فحسب، وإنما ما عاد لها أي اتصال بكل من حولها في المجتمع الألماني كذلك، إلا مع زوجها الذي يتحدث السواحلية والخادمة الإنجليزية التي كانت تتحدث معها بالهندوستانية إلى أن تعلمت اللغة الألمانية. (وكان لا يمكنني الحديث مطلقا يوميا، عدا الأحد، إذ أصبح من الساعة التاسعة والنصف صباحا حتى الرابعة عصرا، بشكل اعتيادي، خرساء؛ لأن زوجي يكون في هذا الوقت في عمله… أصبحت الحياة على هذا النحو لا تطاق، مثلما ذكرت، لا تطاق أبدا وعزمت على ألا يهدأ لي بال حتى أتعلم لغة هذه البلاد…كما عزمت بكل ما أوتيت من طاقة على محاولة تعلم كل شيء سريعا، تقاليد وعادات البلد الذي أعيش فيه الآن، حتى لا أترك انطباعا فيه شيء من شفقة الجميع على تنشئتنا المتواضعة حسب كثير من الآراء هنا.)
إن نمط الحياة في المجتمع الألماني كان نمطا صعب الاستيعاب على تلك الفتاة الشرقية التي عاشت بين أحضان الطبيعة ورضعت منها سنين طوال، والآن قد حان الأوان ليكون كل شيء من مقاس الحضارة الأوروبية (…فلو قدر لمسلمة أخرى من القسطنطينية أو القاهرة تحت الظروف نفسها أن تعيش في أوروبا لما احتاجت كثيرا أن تكابد ذلك التباين الذي أجبرتُ على معايشته آنذاك، فقد كنت ألبس حتى وقت قريب زي أسلافي القديم منذ آلاف السنين، وكنت أستخدم أصابعي الخمس كسكين وشوكة طبيعيتين)، وفي عادات كان يجب عليها أن تعتاد عليها تقول: (كنت أستحم في حوض الاستحمام بنفور كبير في البداية، ولكن وجب عليّ التعود عليه كغيره من الأشياء الكثيرة بمرور الوقت؛ إذ وجدت من القذارة أن أغتسل في ماء غير جارِ مثلما تعودنا على ذلك في بيتنا) وتقول فيما يتعلق بالأكل: (رأيت أن الأكل هنا يطبخ سيئا للغاية، ولم أستطع بداية التعود على الطعام إلا بصعوبة فائقة. وقبل كل شيء كانت فكرة أكل لحم الخنزير مريعة لي، واستغرق الأمر طويلا…كنت عندما لا أرغب في أكل الكثير من التوافه المحلية -بعد تذوقها- أذهب بكل بساطة إلى المطبخ وأطبخ لنفسي الكاري والبيلاو) وعن الهواء قالت: (ولأنني أصبحت أعيش سنوات ليلا ونهارا على النوافذ المفتوحة، كنت أتحمل في البداية باستياء الهواء المستهلك والضار لجهازي التنفسي، والنتيجة أنني كنت أعاني من الصداع حالما أكون في غرفة ليس بها ما يكفي من الهواء… تخيلي فقط أنني أصبحت بسبب حبي للهواء الطلق دون علم أضحوكة الجيران، خاصة أنني كنت أفتح النوافذ طويلا أيضا في أثناء الشتاء، وكان يشاع أنني كنت أدفئ الشوارع أيضا!).
لقد ظل الحنين إلى الوطن جرحا لم يبرأ مع الزمن، ولم يخفت في ظل الأوجاع التي تكالبت على السيدة سالمة، وفي وحدتها نفثت روحا في جمادات لتتقاسم وإياها الألم، علها تجد بذلك تسلية لقلبها الحزين. (ولقتل ساعات الوحدة قليلا، فقد كنت عاجزة عن الكلام فعلا، كان لمجوهراتي وقطع ملابسي أن تعاني كثيرا، إذ كنت أتبادل معها أفكاري بصمت، دون حاجة إلى الكلام. أوليست هي الأشياء الوحيدة التي كانت تذكرني بكم وبوطني الحبيب؟ ربما ترين هذا الفعل طفوليا جدا، ومع ذلك أعترف لك بصراحة، أنني مع هذا الفعل، الذي كان يحدث فقط والأبواب مغلقة، وليس نادرا أقوم بتقبيل ومعانقة هذه الأشياء الجامدة. وكثيرا ما يدخل علي زوجي والغرفة ممتلئة بالأغراض المبعثرة فيقوم بمساعدتي في توضيبها).
إن الصورة النمطية المرسومة عن المرأة العربية والتي ما زالت باقية في أذهان البعض في الغرب الأوروبي عانت منها السيدة كثيرا (… لأنه على أي حال كانت تذكر القصص الأكثر سخفا عن المرأة العربية. ومنها، أنني سمينة مثل البرميل على الرغم من أنني كنت في ذلك الوقت نحيفة، ولدي لون ووجه زنجية، وقدماي صغيرتان جدا كأقدام امرأة صينية، ونظرا لذلك لا أستطيع المشي بالطبع …حتى بلغ الأمر في النهاية أن تقوم سيدة ساذجة جدا بتحسس شعري الزنجي المزعوم بحرية غريبة! مع أنها كانت المرة الثانية فقط التي أراها فيها!)
إن الانتقال من الشرق إلى الغرب يعني الكثير من المشاهد الجديدة، والأعراف اللامنطقية من وجهة نظر العقل الشرقي، الأمر الذي يجعلك عالقا في الدهشة أكثر الأحيان. الثلج والسيرك والبخار المنبعث من أفواه الناس والحيوانات من شدة البرد، والمسرح، وأعياد الميلاد، والكثير الكثير من المشاهد التي دهشت منها السيدة سالمة وأعقبت دهشتها برأيها عن ذلك. (كانت مشاهدة الثلج لأول مرة شيئا غريبا لي، ولا أزال أذكر حتى الآن تلك اللحظة التي كنت أرى فيها ندف الثلج الأولى وهي تتساقط من السماء بتموج، …بدا لي غريبا أن يحاول نثر القطن الأبيض الخالص هناك من فوق السماء على الأرض المتسخة…في البداية لم أستطع أن أفسر المشهد،… وارتقبت وصول زوجي بعجلة حتى يفسر لي هذا اللغز الشمالي)
(تخيلي فقط أن البشر والحيوانات كلهم جميعا يبدأون في الشتاء عند درجات برودة محددة بالتدخين، كيف كان مدهشا لي عندما رأيت الأحصنة والبخار يتصاعد منها في الشارع، وأيضا من فمي، يخرج دخان كثيف، وفي إحدى الطلعات في عربة مغلقة في الشتاء رأيت من زجاج النافذة كيف كان سائق العربة يلطم كلتا ذراعيه باستمرار، وخوفا من هذا المشهد العجيب الذي ظننت فيه أن المسكين أصبح مجنونا فجأة، قررت طبعا أن أترك العربة بأسرع ما يمكن، فضحك مني زوجي كثيرا، وفي الوقت نفسه حاول تهدئتي…)
(وكنا من حين إلى لآخر نذهب إلى سيرك رنتس، حيث كانت تعجبني الخيول الرائعة. …ولكن كان الظهور العجيب للنساء أقل إعجابا لي، إذ يظهرن بملابس قصيرة جدا، فما يسميه الناس هنا بقطع الملابس كان في الحقيقة بالكاد يحمل الاسم!)
(وبعد وقت قليل توجب علي أيضا أن أزور مسرحا. مسرح؟! سألت زوجي ما معنى المسرح؟ فأجابني بأن المسرح هو بيت كبير تعرض فيه مختلف التمثيليات، واليوم مثلا سيعرض شيء يذكرك بوطنك، مسرحية «المرأة الإفريقية» … كل شيء بدا لي جديدا وغريبا وبعيدا عن الواقع، ولم أجد تفهما للأمر برمته عندما سألني زوجي إن كانت المسرحية قد أعجبتني، لأجيبه فقط بـ«لا» فرددت عليه سائلة إن كان الممثلون أيضا مجانين، «لا، أبدا» رد علي ضاحكا…)
(دهشت عندما علمت أنه يحتفل بمولد المسيح ولكن دون التفكير مع ذلك، على الأقل في الصلاة. هل يمكنك أن تتصوري ذلك؟!)
ولا يخلو الأمر من استغراب زوجها من تصرفاتها وأسئلتها في بعض الأحيان من منطلق شرقيتها، تقول في معرض وصف عيد الميلاد: (في الصباح التالي لم يكن استغراب زوجي قليلا حين رآني نازلة من غرفة النوم على الدرج في الساعة العاشرة صباحا وأنا رافلة في حلة كاملة، فواجهني بهذا الكلام: «يا إلهي! بيبي ماذا هناك وإلى تودين الذهاب؟!»، دلفت نازلة بكل هدوء، أجر ذيل الفستان الطويل، ثم سألته إن لم يكن هو بنفسه من قال لي إن اليوم وغدا هما يوما عيد! ـ «نعم بيبي مثل هذا يفعل لديكم ولكن الأمر هنا مختلف»)
ومن محاسن الصدف على قلتلها في حياة سالمة بعد زواجها (ومن المصادفة أن وصلت إلينا قبل أربعة عشر يوما من موعد الحفلة سلحفاة ضخمة مباشرة من زنجبار، في سفينة شراعية، وكانت توضع في حوض الاستحمام مع أننا كنا نستعمله مرات عدة في الأسبوع… وكنت أجلس ساعات مع السلحفاة في الحمام وأفكاري في هذه اللحظة تبعد مئات الأميال عن المكان الذي رمانا القدر إليه أنا والسلحفاة… تملكت النظرات الحانية قلبي عندما كنت أرى السلحفاة جالسة في الماء هادئة لا تحرك ساكنا، وسرح بي الخيال أن تكون جليستي الخرساء قد قرأت أفكاري ومشاعري، ومنذ أن كانت بيننا أحسست بشعور أقل بالوحدة وكنت حزينة كثيرا عندما كان يجب أن تموت حتما، فلحمها سيقدم بالتأكيد حساء يسمى «حساء السلحفاة»… من يصف لي شعوري عندما سألني الخادم: «سيدتي! حساء البوليون أم حساء السلحفاة؟ كان ذلك قاسيا جدا، كيف أملك قلبا يجعلني أستمتع بلحم جليستي الخرساء؟!)
لم تدرِ السيدة سالمة وهي تودع سلحفاتها (جليستها الخرساء) كما وصفتها أن هناك وداعا ينتظرها سيقصيها إلى حيث الألم والحزن وفقدان النصير. تروي السيدة سالمة في رسائلها تفاصيل الفاجعة التي مرت بها. من بداية خروج زوجها من البيت مرورا بتفاصيل وجوده في المشفى وأيامه الأخيرة وهو يصارع الألم وصولا إلى الحضن الأخير للنعش الذي ضم جثة زوجها. وفي معرض ذلك تقول: (…حيث كنت في الفراش من أثر حمى ألمت بي، وكان يجب علي باستمرار أن أضع كمادات ثلج على رأسي حتى أقاوم الحرارة التي اعترتني نتيجة فطاط طفلتي… أراد زوجي زيارة أبيه المريض في شقته الصيفية، وللوصول إلى هناك كان يجب على المرء أن يستعمل عربة القطارات …وعندما استيقظت كان كل شيء مظلما، …حتى الساعة التاسعة ليلا كان كل شيء هادئا لأنني في هذا الوقت كنت أتوقع رجوع زوجي، بدأ يساورني بعض القلق …الساعة عند منتصف الليل وزوجي حتى الآن لم يعد…أخيرا طرق أحد جرس المنزل بلطف… مضى تقريبا خمس دقائق على ذلك وكانت بالنسبة لي طويلة جدا،…بدأ قلق لا يوصف يساورني مرة أخرى، وفجأة قفزت من سريري، وأنا بقميص النوم ومشيت إلى الرواق… وبدأت أنادي زوجي بصوت مرتفع من الدرابزين عله يسمعني… وإذا بي أجد نفسي ممسكة بالخادمة التي هبت إلي مسرعة وهي تصعد السلم … وكان يبدو عليها الاضطراب جدا… وإذا بأحدهم يقول لي مواسيا: «سيدتي، زوجك لا يزال حيا ولكنه مريض جدا»
قضت سالمة أتعس لحظات حياتها وهي غارقة في حزنها بجوار زوجها والذي كان من حولها يواسيها فيه وهو لا يزال يتنفس (تمكنت من رؤية ما لم أستطع رؤيته في الليلة الماضية، كان هناك جرح كبير يغطي طول جبهته، والأنف كان متضررا، وعند أسفل الرأس كان هناك جرح أكبر وأخطر من الذي على الجبهة، وكانت إحدى أذنيه مفقودة تمام، أما الجرح القاتل فكان في صدره الذي كان مع الذراع في حالة تهشم كامل وكانت ساقه أيضا قد تضررت ضررا جسيما! …)
وتختم فصل تحت اسم «بين الأمل واليأس» بقولها: (في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء أراح الله زوجي المسكين من عذاباته). وبهذا انتهت حياة زوجها.
وفي ختام مشهد الوداع: (عندما انتهت مراسم التشيع ورأيت كيف تأهب الناس ليلقوا كل ما لدي في القبر، استولت علي أمنية واحدة، وهي أن أكون من تلك الطائفة التي تحكم على الزوجات بالحرق في كومة الحطب، حتى تلحق مباشرة بالزوج! … احتضنت النعش وجاهد الناس بمشقة لنزعي منه. أو ليس قد ضم هذا النعش كل ما أملكه؟!…)
كل شيء كان يثير فيها الوجع، فهي الآن وحيدة بلا وطن، بلا أهل، بلا سند، في مجتمع لا شفقة ولا رحمة فيه، ومع أطفال ثلاثة لا يتجاوز عمر أكبرهم عن سنتين ونصف. ظلت سالمة هائمة في حزنها، مُرعبة من كل شيء، وما أكثر ما جمعت أطفالها في الغرفة حولها وأغلقت عليهم الباب، كانت تجلس معهم لساعات طويلة، كاتمة كل ذلك الخوف بداخلها عن الآخرين. لكن للحب قوة خارقة تصنع المعجزات، وليس كحب الأم حب. لقد قاومت السيدة سالمة بكل قوتها، وتكبدت المشقة وتحملت الجوع والألم، وضحت بكل ما تملك. فكانت لأطفالها الأب والأم، والمعلم والطبيب، والقريب والبعيد.
لقد تنقلت سالمة في ربوع ألمانيا، من مدينة إلى أخرى، وقد يسأل السائل ما الدافع لكل هذا الترحال، إنه العوز المادي، نعم …ابنة سلطان عمان وزنجبار وزوجة التاجر الألماني وصل بها الحال إلى بيع مجوهراتها، وأن تعمل كمعلمة للغة العربية، وأن تخيط نعلها في جنح الليل والناس نيام. لقد حملت فصول ما بعد الفاجعة (موت زوجها) الكثير من المعاناة والألم، إذ كانت حياتها بعد ذلك كمركب في وجه عاصفة وأمواج متلاطمة تحيط به، والغرق يحدق به في كل لحظة. (كان التفكير في أنه يتوجب علي أن أواصل العيش في الظروف الأوروبية المعقدة جدا وتذكر فقدي الذي لا يعوض، يسلبني ما بقي لي من رمق في الحياة. وقبل كل شيء كان الشعور المؤرق بالوحشة يحكم قلبي دائما).
(مثلما يقال في هذه البلاد قلما تأتي مصيبة وحدها، كان هذا يصدق أيضا على حالتي) لقد تعرضت السيدة سالمة لخيانة خسرت من ورائها الكثير من أموال زوجها، مما جعلها تعيد النظر في استمرارها في هامبورج مدينة الغلاء، ولهذا انتقلت من هامبورج إلى دريسدن، وقبل مغادرتها لهامبورج حدث ما أدخل فرحا عابرا إلى قلبها المنكسر (…وفعلا بعد أربعة عشر يوما تقريبا من مصادفتهم في الشارع كنت أجلس وحيدة في غرفتي أتذكر الماضي بحزن، وأفكر في المستقبل بتردد؛ إذ دخلت علي الخادمة وأبلغتني أن عشرين من الرجال السود تقريبا يودون رؤيتي، عرفت دون مشقة من هم زواري…)، إذن فقد زارها بحارة من زنجبار. تفاصيل ذلك اللقاء وكيف عثر أولئك البحارة على مكانها والأيام التي قضوها في بيتها مع أطفالها، أفردت له السيدة سالمة فصلا بعنوان (زيارة من زنجبار) (وكان لقاؤنا مؤثرا جدا إلى حد أن الخادمتين الألمانيتين الجالستين على الباب أخذتا تبكيان بصوت عال دون أن تعرفا أي كلمة من كل الكلام الذي نتحادث به…)
في دريسدن حيث محطات جديدة تنتظر السيدة سالمة، والعوز المادي يزداد يوما بعد يوم (وحتى حصالة الأطفال كان يجب عليها أن تضحي بما فيها من نقود)، والآن لن يكون لدى السيدة سالمة سوى بيع مجوهراتها (ربما ما زلت تذكرين المشبك الذهبي الذي صنعته لي على نموذج سلاح البحرية الانجليزي من الذهب الخالص، كنت أريد بيع هذا المشبك، فذهبت لأغلى بائع مجوهرات معروف وطلبت منه أن يقدر ثمنه، راق لبائع المجوهرات أن ينظر إليّ بشفقة، فقد اعتبرني سفيهة ومعتوهة، ومن دون أن ينظر إلى المشبك عن قرب أرجعه إليّ وقال لي بلد زائد: «سيدتي نحن نتعامل مع الذهب والفضة» …) وتكمل السيدة سالمة قصتها مع التاجر وكيف أجبرته على وضع المشبك في محك الذهب لإثبات صدقها وأن المشبك من عيار ذهب 18، وقصص أخرى كثيرة تسجلها السيدة سالمة في مواجهة ما آلت إليها من العوز المادي.
كانت حياة السيدة سالمة رمادية، لا شيء يمكن أن يخفف عنها أوجاعها التي تزداد لحظة بعد لحظة، ولكن الحياة وإن قست فلا يخلو الأمر من هدايا ربانية بين الحين والآخر، وهو فعلا ما حدث مع السيدة سالمة بعد أن التقت بصديقة حنون والتي كانت عونا لها في وحشتها «البارونة سوندسو» (آه كم مرة سقت إليها قلبي المثقل بالأحزان وقد كنت مطمئنة إلى تفهمها ومشاركتها في كل حال، كم مرة آه، كم مرة عدت إلى البيت من عندها مواساة قوية، لأتمكن من مواصلة طريق حياتي المملوء مشقة). كذلك تعرفت السيدة سالمة في رحلة إلى سويسرا الساكسونية على بروفيسور كان له أثر جميل في حياتها، خصوصا من الناحية العلمية، إذ تعلمت على يديه أشياء كثيرة (اقترح علي البروفيسور اقتراحا أسعدني كثيرا، وقبلته في الحال، وهو أن أعطيه دروسا في اللغة العربية على أن يعطيني في المقابل ساعات في الدروس العلمية…)
ومرة أخرى تفكر السيدة سالمة في الانتقال إلى مكان أرخص لتكون مسارا لشتات وجهتها هذه المرة، هناك حيث ستبدأ مرحلة جديدة في حياتها وحياة أطفالها؛ إذ سيبدأ أولادها في ارتياد المدرسة (احتضنت أطفالي بحرارة عندما ذهبوا في صباح اليوم الأول إلى المدرسة ، وبدا لي الأمر وكأنهم أوشكو على القيام برحلة حول العالم)
ظلت سالمة عالقة في همومها، وكان تعليم أطفالها هو الأهم بالنسبة لها، فهي كثيرا ما تؤكد في رسائلها أن العلم هو أساس الحياة الكريمة في المجتمع الألماني ومن لم يحظَ به لأي عذر ما فلن يجد من المجتمع سوى الصد والمهانة. في تلك الأثناء كان الشتاء في ألمانيا، وهو وقت خصب لانتشار الأوبئة وقد أصيب سعيد بالدفتيريا الخبيثة ولولا رحمة الله لكان في عداد الموتى كما كان يتنبأ الطبيب (وبعد ساعة واحدة بعدما آيسني الطبيب من كل أمل، خرج فجأة تيار شديد من الدم من فم الطفل الذي كان متصلبا ومستلقيا على فراش، فجلب له هذا التقيؤ النجاة.)
وكذلك الحال مع الطفلتين فما إن حل الربيع حتى أصيبتا بالحمى القرمزية (مرت عليّ أيام من المعاناة والمكابدة لا يمكن أن تتخيليها، لن تصدقي إذا قلت لك إنه كان يجب علي أن أظل ستة أسابيع كاملة مع طفلتين مريضتين ومن دون أي مساعدة، فقد كان يجب علي أن أقوم بنفسي بكل أعمال البيت، لأنني لم أجد خادمة؛ فالكل كان خائفا من العدوى… وصارحتني خياطة عجوز كانت تأتي إلينا لبضع ساعات ومن وقت إلى آخر لتساعدني في أمور المطبخ وتوفير الأشياء، فقالت لي في أحد الأيام إنها تأسف جدا؛ فلن تتمكن في الأيام القادمة من المجيء لمساعدتي؛ وذلك لأنها تخشى أن تفقد زبائنها الآخرين!…)
وللمرة الثالثة تتجه السيدة وأطفالها إلى العاصمة الألمانية وهذه المرة من أجل العمل؛ إذ ستبدأ السيدة سالمة في تدريس العربية (للأسف لم أجد إقبالا كبيرا على دراسة العربية؛ لأنه على الأرجح في ذلك الوقت لم يكن الشرق في ألمانيا موضة. ولاحقا قدمت أيضا دروسا في اللغة السواحلية والتي كانت أسهل بكثير على الأوروبيين، وكان الغالب في موضوعات تدريسي لطلابي عن كل شيء ممكن تقريبا…) في فصل بعنوان (في عاصمة الإمبراطورية) تتطرق السيدة سالمة للموضوعات التي كانت تتحدث فيها مع طلابها، كما تذكر موقفا لزوجين يهوديين، وفي فصل سابق تفكر بصوت مسموع بشأن العمل وقرارها فيه.
كثيرة هي القرارات التي كان يجب عليها أن تتخذها عقلا لا عاطفة. فبعد صراع مرير قررت أن تبعث ابنها للمدرسة العسكرية ببنسبيرج (جلسنا في هذا المشوار القصير صامتين فكلانا كان يشعر بمعنى اللحظات القادمة، كان لدينا مسافة لا بأس بها لنمشيها على الأقدام، حتى نصل إلى هدفنا، وعند كل خطوة كان قلبي يتصدع من القلق الداخلي الذي لا يوصف، حتى أوشكت أن أرجع بالولد…) ظل قلب السيدة سالمة ينزف وجعا على بعد طفلها، ولم يفارقها شعور «أنها قدمته قربانا على مذبح الوفاء لزوجها»
تدهورت حالة السيدة سالمة كثيرا طوال تلك السنين، والتفاصيل كثيرة حول ذلك كما أوردتها في الرسائل. عاشت سالمة حياتها من أجل أطفالها، فضلت العزلة عن العالم الخارجي (وبهدوء وانعزال عشت تماما من أجل الأولاد فقط، ومن دونهم لم يكن لي أن أحس بالراحة، معا، فالناس كانوا يعلمون أنني لا أحب أن أخرج من دونهم. وكان خروجهم من البيت وحدهم يبعث في قلقا كبيرا؛ لأن عبور الشوارع المزدحمة كان يشكل لي دائما مصدر قلقل مستمر)
إن رسائل إلى الوطن هو وثيقة كتبت الحياة ليوميات امرأة شرقية عاشت في مجتمع غربي، حيث لا شيء يشبهها في ذاك المكان، الفقد عنوان كبير تحته الكثير من التفاصيل التي عانتها السيدة سالمة والتي سجلتها بقلب أم رؤوم. يبقى القول إن امرأة كالسيدة سالمة منعطف إنساني خارج عن القوانين الحياتية المعتادة والخلود حق لها.
* رسائل إلى الوطن كتاب جديد للسيدة سالمة بنت سعيد يترجم لأول مرة إلى اللغة العربية.. وترجمه من الألمانية زاهر الهنائي.
كاتبة عمانية مقيمة في ألمانيا.

رواية «وداع زنجبار Abschied von Sansibar» للكاتب السويسري لوكاس هارتمان، سالمة بنت سعيد في الأدب الأوروبي –

نشر في ملحق شرفات بجريدة عمان، 16.02.2016

زاهر الهنائي –

لم يقتصر حضور الأميرة العربية سالمة بنت سعيد في كتاباتها التي تمثّلت في مذكراتها ورسائلها، بل كانت هناك أعمال روائية تجسدت فيها الأميرة وأبناؤها رمزا لعلاقة الشرق والغرب، بدءا من الرواية الألمانية إرنست فون سالمون «الكاديتِن، طلاب المدرسة العسكرية» 1957، ومرورا برواية ماري إم كاي رياح التجارة سنة 1963، التي ترجمت إلى الألمانية سنة 1982 بعنوان جزيرة في العاصفة، ومرورا أيضا برواية هانس كريستوف بوخ «زنجبار بلوز» 2008، ورواية الكاتبة الألمانية نيكولا تسي فوسلر «نجوم على زنجبار» 2010، وآخرها رواية المؤلف السويسري لوكاس هارتمان «وداع زنجبار» 2013.
رواية «وداع زنجبار، Abschied von Sansibar» للوكاس هارتمان باللغة الألمانية (2013) تناقش إشكالية الاندماج في المجتمع الغربي متخذة من الشخصية التاريخية للأميرة سالمة وأولادها الثلاثة سعيد وأنطوني وروزالي أنموذجا لذلك، يحاول هارتمان توظيف الأحداث التاريخية التي مرت بها سالمة وأولادها في تعميق فكرة فشل الاندماج، مركزا على ابنها سعيد رويته الذي يمثل بطل الرواية، حيث تبدأ الرواية بمشهد سعيد الذي أصبح على مشارف نهاية العقد السابع من حياته، بالتحديد سنة 1946. ويبدأ في رحلة الذكريات وهو على كرسيه في غرفته يسترجع الماضي، ماضي أمه وعودتهم الأولى إلى زنجبار سنة 1885، يسترجع تلك الذكريات بتفاصيلها وهو في طريق الرحلة إلى زنجبار وتوقفهم في عدن، المكان الذي كانت أمه تحاول إخفاء ذكرياتها الأولى فيه قبل عشرين عاما عندما أقامت شهورا تنتظر زوجها. يسترجع فشل الرحلة عن تحقيق أهدافها في استرجاع أموال أمه في زنجبار. يستثمر لوكاس هارتمان رسالة سالمة (سنة 1883) إلى أخيها برغش التي تظهر فيها سالمة شغفها بالصلح مع أخيها برغش ومحاولة استرضائه، فيقتطع جزءا من الرسالة في بداية كل فصل من فصول الرواية السبعة عشر.
محاولا إظهار شوق سالمة إلى وطنها وألمها ومعاناتها في الغربة. يعزّز هارتمان ثيمة الفقد هذه وعدم القدرة على الاندماج للأسرة بذلك التشظي والتفرق الذي حصل للأسرة نتيجة الحرب العالمية الأولى والثانية، من خلال رسالة روزالي إلى أخيها سعيد بعد فترة طويلة من الافتراق وعدم رؤيتهم لبعض منذ آخر لقاء جمعهم في مقبرة العائلة بهامبورج حينما قرروا بعد أسبوعين من وفاة أمهم نقل رفاتها إلى مقبرة العائلة بهامبورج ليدفن بقرب زوجها، بعدها لم يحصل بينهم لقاء حتى وفاتهم. يحاول هارتمان أيضا تعميق هذا الإشكال في قضية زواج سعيد من امرأة يهودية، كانت من عائلة ثرية، وموقف أمه وأختيه الرافض. كما يظهر ذلك في الخلاف بين سعيد وزوج أخته الكبرى أنطوني وعدم التوافق بينهما. يستمر الكاتب في تعميق فكرة التشظي وإحساس الأبناء بعدم الانتماء في مشكلة أنطوني مع زوجها ذي الميول الاستعمارية وعدم التوافق بينهما مما يؤدي إلى انفصالهما لاحقا. وكذلك في عدم استقرار سعيد في عمله، منتقلا من ملحق عسكري في القنصلية الألمانية في بيروت ثم مفوض عام للسكك الحديدية في مصر ثم مدير للبنك الألماني الشرقي في القاهرة، وأخيرا أصبح حرّا وكرس نفسه في مجال العلاقات الدولية، ولا سيما العلاقة بين اليهود والعرب، واشتغل بأفكار تيودور هرتزل، الذي كان يطالب بوطن لليهود في فلسطين.. ويشعر بعد ذلك محبطا أنه لم يحقق ما كان يصبو إليه. يحاول أيضا المؤلف توسيع ثيمة الألم والمعاناة من خلال حادثة موت أنطوني في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث توفيت في شقتها بباد أولدسلو بهامبورج نتيجة قصف الطيران الحربي البريطاني سنة 1945. يحاول هارتمان أن يملأ بعض الفراغات حول تفاصيل حياة أنطوني الغامضة في كثير من جوانبها بإحداث فكرة العثور على مخطوطة في شقتها التي توفيت فيها، تتحدث هذه المخطوطة عن حياتها ، التي لم تعد بعض الأوراق منها صالحة للقراءة وبعضها ساقط. وكذلك من خلال رسالة الابنة الصغرى روزالي إلى أخيها سعيد، التي لم تكن واثقة من وصول الرسالة إليه، فهي لا تعرف الآن عنوان إقامته ولا تعرف إن كان على قيد الحياة أيضا، يحاول المؤلف من خلالها استظهار شخصية روزالي التي تكاد تكون مغيبة في الوثائق ولا نعرف إلا القليل عن تفاصيل حياتها، تظهر هذه الرسالة شخصية روزالي وقربها من أمها حيث ظلت معها كثيرا في يافا وبيروت ورافقتها في سنوات حياتها الأخيرة عندما عادت سالمة من بيروت سنة 1914 قبيل الحرب العالمية الأولى لتستقر في ألمانيا إلى وفاتها في منزل ابنتها روزالي في مدينة فيينا سنة 1924. كما يحاول لوكاس هارتمان إظهار شخصية روزالي من خلال دورها في صياغة مذكرات أمها التي نشرتها في عام 1886، وحظيت بسببها بسمعة جيدة في الوسط الأوروبي، وترجمت إلى عدة لغات، ونالت إعجاب كثير من الكتاب والمهتمين، ومن بينهم الكاتب الإنجليزي الإيرلندي الشهير أوسكار وايلد (1854-1900). حيث تكشف روزالي هذا السر، الذي وعدت أمها بعدم الكشف عنه، لأخيها سعيد بعد مدة طويلة من ظهور المذكرات وانتشارها، في معرض دفاعها عن نفسها بأنه كان يُنظر إليها أنها قليلة الحيلة وليس لديها من الإمكانيات مثل أخيها سعيد الذي كان له عدة مؤلفات وكذلك أختها أنطوني التي نشرت كتابها عن المأكولات الاستوائية 1907، وكتبت مقالات أثناء وجودها في جزر المارشال في جاليوت نشرتها في مجلة المستعمرات الألمانية سنة 1902 بعنوان «Südsee Bilder».
تنتهي الرواية بمشهد موت سعيد على كرسيه في غرفته بفندق شفايتسرهوف بمدينة لوتسرن السويسرية سنة 1946 نتيجة أزمة قلبية، وحوار سعيد مع أمه الميتة التي حضرت قبل وفاته ليحاول عبثا سؤالها عن حقيقتها ومن تكون، حيث أخذ إحساسه بالضياع وعدم الانتماء يزيد مع مرور الأيام وحاول جاهدا أن يتعرف على حقيقة أمه ومن تكون وهو في الرمق الأخير من حياته، ولكن شبح أمه ولّى دون إجابة وأغمض هو عينيه للأبد..
تقدم رواية «وداع زنجبار» قراءة واعية لتفاصيل حياة أسرة سالمة وتحاول إكمال ثغرات فيها لم تسعفنا بها الوثائق، مستندة إلى أحداث تاريخية وشخصيات حقيقية واقعية استمدها المؤلف من قراءته واطلاعه على أعمال تاريخية وأدبية مهمة عن سالمة وأبنائها، وزيارات ميدانية قام بها للاطلاع عن قرب على تفاصيل حياة هذه الأسرة الشرقية الغربية. وكان للملحق الذي وضعه في نهاية روايته أهمية كبيرة للمهتمين بتفاصيل أسرة الأميرة سالمة. ويتضمن سردا تاريخيا مهما بالوقائع والشخصيات، وقائمة بالمراجع والمصادر التاريخية والأدبية التي تتعلق بشخصية الأميرة وأبنائها. قمت هنا بترجمة هذا السرد التاريخي نظرا لأهميته في الكشف عن جانب مهم من سيرة سالمة وأبنائها وأحفادها الذي ظلّ لسنوات طويلة مجهولا.
تاريخ وأحداث مهمة في حياة السيدة سالمة بنت سعيد وأبنائها:
-10.03.1839: ولادة رودولف هاينريك رويته (زوج سالمة) في هامبورج، وهو ابن الدكتور أدولف هرمان رويته من زوجته الأولى فرانتسيسكا روزالي (بالولادة. فويلش).
-30.08.1844: ولادة سالمة بنت سعيد، ابنة السيد سعيد بن سلطان، سلطان عمان وزنجبار، وأمها جارية شركسية اسمها جلفيدان، في بيت المتوني.
-1855: التحاق هاينريك رويته كمتدرب في شركة هانزينج (Hansing & Co) ثم أصبح وكيلا لها في عدن.
-1856: وفاة أبيها السلطان سعيد، وتولي أخيها غير الشقيق ماجد الحكم، قامت بإدارة مزارعها الكثيرة التي ورثتها، وكانت لا تزال صغيرة. وزُجّ بها في مؤامرة أخيها غير الشقيق برغش للإطاحة بماجد. ولكن المحاولة فشلت.
-1866: انتقال هاينريك إلى زنجبار، وتعرفه على الأميرة سالمة في ظروف غامضة، ووقوعه في حبها.
-24.08.1866: سالمة حامل في الشهر الرابع، تهرب إلى عدن على السفينة الحربية البريطانية «Highflyer»، وتنتظر زوجها في عدن أشهرا.
-07.12.1866: ولادة الابن الأول «هاينريك»، الذي توفي لاحقا في طريق الرحلة إلى هامبورج.
-30.05.1867: وصول هاينريك رويته إلى عدن. وفي اليوم نفسه تحوّلت سالمة إلى المسيحية واتّخذت اسم إميلي وتزوجت هاينريك رويته. وانطلقت رحلتهما إلى هامبورج.
-24.03.1868: ولادة الابنة الكبرى أنطوني توقا في هامبورج.
-13.04.1869: ولادة الابن رودولف سعيد.
-16.0401870: ولادة الابنة روزالي جاتسا.
-06.08.1870: وفاة هاينريك رويته نتيجة حادث مؤلم. وضعت السلطات في هامبورج إميلي تحت الوصاية.
-07.10.1870: وفاة السلطان ماجد في زنجبار، وتولي برغش الحكم، الذي رفض مطالبات سالمة في ما ورثته عن أبيها وأمها.
-1870/‏‏‏71: الحرب بين ألمانيا وفرنسا، وانتهائها باستسلام فرنسا، وتأسيس الإمبراطورية الألمانية في شبيجل زال فون فرزاليس في 19 من يناير 1871، وتتويج فلهلم الأول (الذي كان ملكا بروسيا) قيصرا على الإمبراطورية. وأصبح أوتو بسمارك مستشارا للإمبراطورية.
-1872: انتقال إميلي رويته مع أولاده الثلاثة إلى دريسدن.
-1875: تسافر إميلي إلى لندن، حيث كان برغش في زيارة رسمية. أُحبِطت غايتها في التصالح مع برغش من قبل البريطانيين. فرجعت محبطة إلى ألمانيا.
-1877: انتقال الأسرة إلى رودولشتات نتيجة التردي الكبير للوضع المالي. وتحاول إميلي كسب المال عن طريق تدريس العربية. وتحصل على دعم من قبل أهل الخير من النبلاء.
-1879: الانتقال إلى برلين.
-1880- تقريبا 1900: تنافس القوى الأوروبية في الحركة الاستعمارية في أفريقيا، وسعي الإمبراطورية الألمانية الحديثة إلى فرض مكان لها في الجنوب الغربي من أفريقيا وشرقها، لمنافسة بريطانيا العظمى في النفوذ الكبير وعوائد التجارة في زنجبار.
-1882: التحاق سعيد بمدرسة بنسبرج العسكرية في كولونيا.
-1885: إميلي تسافر برفقة أولادها الثلاثة إلى زنجبار، تحت حماية الأسطول الألماني. يحاول بسمارك استغلال إميلي، وخصوصا سعيد، كأداة ضغط، لدفع برغش إلى التوقيع على اتفاقية، تؤمّن لألمانيا السيادة على المناطق الساحلية لشرق أفريقيا. يرضخ السلطان برغش للمطالب الألمانية بسبب الزوارق البحرية. ولكنه يرفض استقبال إميلي والتصالح معها. اتضح لإميلي أنها استعملت كأداة في اللعبة السياسية. كما أن الخطة لجعل سعيد سلطانا كانت غير قابلة للتنفيذ.
-1886: نشر مذكرات أميرة عريبة عن دار فريدريك لوكهارت ببرلين وانتشارها في أوروبا. تم ترجمتها إلى عدة لغات.
-1888: سعت سالمة بعد وفاة برغش إلى المصالحة مع السلطان خليفة، فسافرت للمرة الثانية إلى زنجبار، وكانت برفقتها هذه المرة ابنتها روزالي فقط. ولكن جميع محاولاتها لكسب رضا السلطان باءت بالفشل. كما شعرت بالإهانة من خذلان الحكومة الألمانية لها، فقررت عدم الرجوع إلى ألمانيا واستقرت مع ابنتيها في الشرق الأوسط، بداية في يافا والقدس ثم في بيروت.
-1888-1890: وفاة القيصر فيلهلم الأول 1888، ووفاة خليفته أيضا فريدريك الثالث بعد 99 يوما متأثرا بالسرطان. يصبح ابنه فيلهلم الثاني قيصرا وهو ابن 29 عاما. كان فيلهلم الثاني من البداية ضد سياسات بسمارك التوسعية.
وفي مارس 1890 طلب القيصر من بسمارك الاستقالة من منصبه.
-01.07.1890: توقيع معاهدة هيجولاند-زنجبار بين الإمبراطورية الألمانية والمملكة المتحدة لبريطانيا وإيرلندا. اعترفت ألمانيا بالحماية البريطانية على زنجبار وبيمبا. وتنازلت بريطانيا العظمى مقابل ذلك عن جزيرة هجولاند لألمانيا. وبذلك أصبح واضحا لإميلي أن قضيتها لا يمكن أن تلقى دعما من الجانب الألماني.
-1893: سعيد يصبح ملازما في حامية تورجاو، ويأمل في مساعدة أمه في المطالبة بإرثها في زنجبار عن طريق وساطة بسمارك رغم كل المعوقات. ويرغب في الوقت نفسه أن يُنقَل إلى القنصلية الألمانية في بيروت. يتمكن من مقابلة المستشار السابق.
-1894: سعيد في بيروت كملحق عسكري تحت إمرة القنصل شرويدر. يعيش سنة مع أمه وأختيه.
1898- 1900: سعيد يودع الخدمة العسكرية بعد عشر سنين كملازم أول. ويصبح فجأة مفتشا عاما للسكك الحديدية في مصر.
-30.04.1898: زواج أنطوني في بيروت من المسؤول الاستعماري أويجن براندايس (1846-1930)، حاكم جزر المارشال. سافرا إلى جنوب المحيط الهادي.
-06.09.1900: ولادة ابنة أنطوني ماري مارجريتا، وتدعى جريتشن، في جالويت.
-16.09.1901: سعيد يتزوج ماريا تيريزا ماتياس (1872-1947) في برلين، وهي تنتمي إلى عائلة يهودية ثريّة. وعَمُّها لودفيك موند (1839-1909) هو مؤسس مصنع الصودا الرائج، وصنع له اسما كأحد الداعمين والراعين للفنّ.
-22.05.1902: ولادة ابن سعيد فرنر هاينريك ماتيسن في برلين.
-09.12.1902: زواج روزالي في برلين من ضابط المدفعية مارتن ترويمر من مدينة يينا (1862-1940)، الذي أصبح بعد ذلك لواء.
-06.10.1903: ولادة ابنة روزالي إميلي في برلين.
-10.08.1904: ولادة ابنة أنطوني جولي يوحنا في جالويت.
-18.09.1904: ولادة ابنة روزالي برتا في برلين.
-1905: أنطوني وزوجها يعودان من جنوب المحيط الهادي. يكون لها نشاط بارز في جمعية الاستعمار الألماني النسائية وتعد من مؤسسات مدرسة المرأة الاستعمارية في ريندسبورج.
تنشر سنة 1907 كتابا عن المأكولات الاستوائية، للترويج للغذاء الصحي للحياة في المستعمرات الألمانية.
-1906-1910: سعيد يحصل على موافقة من مجلس الشيوخ بهامبورج، لتسمية نفسه برودولف سعيد رويته، ويصبح مديرا للبنك الشرقي الألماني في القاهرة لأربع سنوات. وبعد استقالته عاش متنقلا بين لندن ومدينة لوتسيرن السويسرية يعمل في الأعمال الحرة والخيرية، وكرس نفسه أكثر في العلاقات الدولية، ويرغب في أن يكون وسيطا في الشرق الأوسط بين اليهود والعرب، واشتغل بأفكار تيودور هرتزل، الذي كان يطالب بوطن لليهود في فلسطين.
-08.05.1910: ولادة ابنة سعيد أولجا سالمة ماتيلد في لندن.
-ربيع 1914: إميلي تعود من بيروت وتقيم مع ابنتها روزالي في برومبرج، مقاطعة بوزين (حاليا بيدجوشتش في بولندا). ولم ترجع بعدها إلى الشرق الأوسط.
-27.06.1914: مقتل وريث العرش النمساوي فرانس فرديناد في سراييفو. كان الحادث سببا في اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي راح ضحيتها أكثر من تسعة ملايين وانتهت بسقوط الإمبراطورية القيصرية الألمانية، كما خسرت ألمانيا مستعمراتها، واختفت من الخريطة الإمبراطورية العثمانية التي كانت بيروت جزءا منها.
-1914-1918: في أثناء الحرب أخذ رودولف سعيد رويته ينشر رسائل خطابية في جريدة زيورخ الجديدة، مطالبا بنهاية سلمية بين «الدول المتقدمة»، خصوصا بين ألمانيا وإنجلترا. جلب له ذلك في الأوساط القومية الألمانية شهرة كممثل للبلاد. ولكنه كألماني مقيم في لندن كان غير مرحب به، ولذلك أقام أثناء سنوات الحرب مع أسرته في مدينة لوتسيرن بسويسرا.
-1920: أنطوني تنفصل عن زوجها، الذي سيعيش بعد ذلك عشر سنوات في زكينجين إلى وفاته.
-29.02.1924: وفاة إميلي رويته في مدينة يينا في منزل ترويمر نتيجة إصابتها بالتهاب رئوي مزدوج. دفنت جرة رفاتها في مقبرة العائلة بأولسدورف في هامبورج.
-12.10.1929: زواج ابنة روزالي إميلي ترويمر في برلين من الحقوقي إريك شفينجه (1903-1994)، الذي كان له دور كبير لاحقا في صياغة القانون الجنائي العسكري فيما يعرف بالإمبراطورية الثالثة (الإمبراطورية الألمانية 1933-1945) وحكم بالإعدام على الهاربين من الخدمة العسكرية.
-30.01.1933: يصبح هتلر مستشارا للإمبراطورية الألمانية. ويبدأ النازيّون بملاحقة ممنهجة لغير الآريين وخصوصا اليهود.
-1934: يصبح رودولف سعيد رويته بريطاني الجنسية، وتسقط عنه الجنسية الألمانية.
-01.09.1939: اندلاع الحرب العالمية الثانية. قوات هتلر تهاجم بولندا، وتعلن فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا. تُحقق القوات الألمانية في الأشهر الأولى تقدما مذهلا يؤدي إلى استسلام فرنسا.
-1939-1945: في أثناء الحرب عاشت أسرة سعيد رويته بشكل رئيسي في لندن. حاول سعيدوزوجته تيريزا مساعدة المهاجرين الألمان.
-24.04.1945: وفاة أنطوني نتيجة قصف الطيران البريطاني لشقتها في باد أولديسلو بهامبورج.
-31.03.1946: وفاة سعيد رويته في فندق شفايتسرهوف بمدينة لوتسرن بسويسرا.