مدونة زاهر الهنائي
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس

الأحد، 13 مارس 2016

مختارات من رسائل إلى الوطن،، للكاتبة رجاء الصارمي – نشر في ملحق شرفات 2/2016

 (طلبت مني مرارا أيتها الصديقة العزيزة أن أرويَ لك تفاصيل حياتي في الشمال وإذا كان ما يرضيك لم يتحقق حتى الآن فذلك بسبب خوفي من إعادة الذكريات بتفاصيلها في نفسي مرة أخرى).

هكذا استأنفت السيدة سالمة مذكراتها في رسائلها إلى الوطن، تلك الرسائل التي سجلت دهشة وقعت فيها امرأة شرقية، كان جل علاقتها بالغرب حب جمعها بتاجر ألماني في وطنها، وقدرها الذي حرك مركبها إلى المجهول، لتجد نفسها وحيدة من كل شيء، مجبرة على تحريك ذلك المركب بمجدافي ألم وخوف (هل كان الوضع مختلفا معي عندما ألقي جسدي أول الأمر في هذا الوسط؟ احتجت إلى سنين لأفيق من هول صدمة ما كان يحيط بي وما كنت أسمعه وأراه بمرور الوقت).
في حالة السيدة سالمة لم يعد الاندماج في المجتمع الغربي وعاداته أمرا اختياريا، ورحلتها من البحر الأحمر إلى بحر الشمال ستكون نهاية لبداية جديدة، سيُخدش حياؤها كثيرا وستتقزز من الأكل ولكنها ستلوذ بالصمت، فما عاد الكلام يجدي. تقول واصفة الرحلة على متن السفينة: (منذ عدة ليال ينام الركاب في الدرجة الأولى، الرجال والنساء كلهم جميعا، في فرشهم في القاعة، إن هذا النوع الجديد من الحرية لم يكن يروق لي كثيرا ولكن يُفعل هذا من باب التمدن ..أما الشيء الأجمل فقد كان المنظر في الصباح التالي عند الاستيقاظ؛ إذ الرجال جميعهم بقمصان النوم والسراويل البيضاء الرقيقة، ولا شيء آخر، والنساء جميعهن بقمصان النوم الإنجليزية الطويلة وتنورة تحتية رقيقة بيضاء، وجميعهن من دون جوارب طبعا).
مرسيليا هي أول مدينة أوروبية تطأها قدما السيدة سالمة كما عبرت عن ذلك، ولأن جسدها الشرقي لم يعتد إلا على الشمس الجميلة فغيابها كان كفيلا بأن يجعلها تتجمد من البرد (وعلى الرغم من أن وصولنا كان في شهر يونيو إلا أنني تجمدت من البرد، حتى أن السيدة اللطيفة والطيبة كثيرا c لفّتني بمعطفها؛ إذ لم أكن أملك أي شيء يدفئني…)
الآن سوف تتجه السيدة سالمة إلى هامبورج حيث ستعيش ثلاث سنوات وأكثر بقليل بجانب زوجها حياة مستقرة وستنجب أطفالها الثلاثة، ولكن الطريق إليها هو طريق إلى المجهول، وليس أصعب من المجهول سوى المسير إليه، تقول واصفة تلك اللحظات: (عندما غادرنا الفندق متجهين إلى محطة القطار ساورني قلق غريب رغبت بسببه في الصراخ عاليا؛ إذ بدا لي وكأني لن أرجع بعد الآن إلى الوطن أبدا، وأن كل الجسور تنهار من ورائي، وتحول صراخ روحي إليكم إلى آلاف الأصوات من جزيرتي الحبيبة التي تنادي جميعها بصوت واحد: «لا تذهبي أبعد من ذلك، عودي» دخلت مع نفسي في صراع رهيب، وبلا شعور ركبت القطار الذي يسوقني حثيثا إلى أرض مجهولة وإلى أناس غرباء عني تماما كما لو أني في عجلة كبيرة للوصول إلى مكاني المستقبلي في أسرع وقت ممكن، وهكذا اتجهنا إلى الشمال)
عاشت السيدة سالمة منذ ولادتها في بلاد ما عرفت غير الإسلام دينا، وظلت عصفورا يحلق بجناحين قويين، إلا أن كلمة (نعم) أثقلت جناحيه فما عاد يعرف بأي سماء يحلق على اتساعها. (أقول لك بكل صراحة، إياك أن تغيري دينك دون قناعة حقيقية، «قناعة»؟ نعم، بمن أعتقد؟ وكيف؟ لم يكترث أحد بعد ذلك لإيماني الحقيقي، كان يكفي القس على ما يبدو، بالدرجة الأولى أن يسمع كلمة «نعم» تأكيدا على ما قاله لي بلغة لم أفهمها إطلاقا عند التعميد ثم عند الزواج الذي تلاه، ولا شيء أكثر من ذلك. وبهذا اعتنقت المسيحية والباقي وجب علي أن أكمله بنفسي…)
وظلت السيدة سالمة تبحث عن سلام لروحها التي ما عادت تدري أي طريق تسلك (قررت من الأفضل لي أن أظل مخلصة لديني القديم في البداية، على الأقل، حتى أشعر بسلام داخلي، فلا شك أنه من الأفضل لي ألف مرة أن أكون مسلمة بدلا من كوني غير مسيحية من القلب ولا مسلمة). تقول واصفة لحظة دخولها الكنيسة للصلاة لأول مرة: (فطلبت من زوجي أن يصحبني إلى الكنيسة. وفي يوم من أيام الأحد ذهبنا إلى هناك وعندما كنت أمام الباب أنوي الدخول خالجني شعور كأنني أوشك على ارتكاب خطأ ما، ولكن الآن لا أستطيع فعل أي شيء سوى الدخول حتى لا أحرج زوجي وعندما جلست على مقعد بين أناس آخرين أصابني ضيق صدر لا يوصف …)
ما أكثر تشبثنا بالأحلام، فهي مخارجنا لكل شيء، ففرحا نقول حلما وتحقق، وحزنا نتمنى أن يكون حلما وينتهي، وبينهما نعلق في أحلام عدة. (قضيت الفترة الأولى في أوروبا وكأني في حلم، وتمنيت أن يكون لي بدل عينين وأذنين، عشر منهما؛ حتى أتمكن من استيعاب كل ما هو جديد وعجيب…ومع أنني لست ضعيفة بطبيعتي إلا أنني كان يتملكني الخوف قليلا. فقد بدا لي ذلك مخيفا، كل شيء، كل شيء، مختلف عما عندنا، المنازل والشوارع والملابس والأكل، ونعم حتى الهواء والناس، وتوجب علي تقبل واستيعاب الكثير بلا حصر ودفعة واحدة.)
لم تنقطع صلة السيدة سالمة في ألمانيا عن الوطن فحسب، وإنما ما عاد لها أي اتصال بكل من حولها في المجتمع الألماني كذلك، إلا مع زوجها الذي يتحدث السواحلية والخادمة الإنجليزية التي كانت تتحدث معها بالهندوستانية إلى أن تعلمت اللغة الألمانية. (وكان لا يمكنني الحديث مطلقا يوميا، عدا الأحد، إذ أصبح من الساعة التاسعة والنصف صباحا حتى الرابعة عصرا، بشكل اعتيادي، خرساء؛ لأن زوجي يكون في هذا الوقت في عمله… أصبحت الحياة على هذا النحو لا تطاق، مثلما ذكرت، لا تطاق أبدا وعزمت على ألا يهدأ لي بال حتى أتعلم لغة هذه البلاد…كما عزمت بكل ما أوتيت من طاقة على محاولة تعلم كل شيء سريعا، تقاليد وعادات البلد الذي أعيش فيه الآن، حتى لا أترك انطباعا فيه شيء من شفقة الجميع على تنشئتنا المتواضعة حسب كثير من الآراء هنا.)
إن نمط الحياة في المجتمع الألماني كان نمطا صعب الاستيعاب على تلك الفتاة الشرقية التي عاشت بين أحضان الطبيعة ورضعت منها سنين طوال، والآن قد حان الأوان ليكون كل شيء من مقاس الحضارة الأوروبية (…فلو قدر لمسلمة أخرى من القسطنطينية أو القاهرة تحت الظروف نفسها أن تعيش في أوروبا لما احتاجت كثيرا أن تكابد ذلك التباين الذي أجبرتُ على معايشته آنذاك، فقد كنت ألبس حتى وقت قريب زي أسلافي القديم منذ آلاف السنين، وكنت أستخدم أصابعي الخمس كسكين وشوكة طبيعيتين)، وفي عادات كان يجب عليها أن تعتاد عليها تقول: (كنت أستحم في حوض الاستحمام بنفور كبير في البداية، ولكن وجب عليّ التعود عليه كغيره من الأشياء الكثيرة بمرور الوقت؛ إذ وجدت من القذارة أن أغتسل في ماء غير جارِ مثلما تعودنا على ذلك في بيتنا) وتقول فيما يتعلق بالأكل: (رأيت أن الأكل هنا يطبخ سيئا للغاية، ولم أستطع بداية التعود على الطعام إلا بصعوبة فائقة. وقبل كل شيء كانت فكرة أكل لحم الخنزير مريعة لي، واستغرق الأمر طويلا…كنت عندما لا أرغب في أكل الكثير من التوافه المحلية -بعد تذوقها- أذهب بكل بساطة إلى المطبخ وأطبخ لنفسي الكاري والبيلاو) وعن الهواء قالت: (ولأنني أصبحت أعيش سنوات ليلا ونهارا على النوافذ المفتوحة، كنت أتحمل في البداية باستياء الهواء المستهلك والضار لجهازي التنفسي، والنتيجة أنني كنت أعاني من الصداع حالما أكون في غرفة ليس بها ما يكفي من الهواء… تخيلي فقط أنني أصبحت بسبب حبي للهواء الطلق دون علم أضحوكة الجيران، خاصة أنني كنت أفتح النوافذ طويلا أيضا في أثناء الشتاء، وكان يشاع أنني كنت أدفئ الشوارع أيضا!).
لقد ظل الحنين إلى الوطن جرحا لم يبرأ مع الزمن، ولم يخفت في ظل الأوجاع التي تكالبت على السيدة سالمة، وفي وحدتها نفثت روحا في جمادات لتتقاسم وإياها الألم، علها تجد بذلك تسلية لقلبها الحزين. (ولقتل ساعات الوحدة قليلا، فقد كنت عاجزة عن الكلام فعلا، كان لمجوهراتي وقطع ملابسي أن تعاني كثيرا، إذ كنت أتبادل معها أفكاري بصمت، دون حاجة إلى الكلام. أوليست هي الأشياء الوحيدة التي كانت تذكرني بكم وبوطني الحبيب؟ ربما ترين هذا الفعل طفوليا جدا، ومع ذلك أعترف لك بصراحة، أنني مع هذا الفعل، الذي كان يحدث فقط والأبواب مغلقة، وليس نادرا أقوم بتقبيل ومعانقة هذه الأشياء الجامدة. وكثيرا ما يدخل علي زوجي والغرفة ممتلئة بالأغراض المبعثرة فيقوم بمساعدتي في توضيبها).
إن الصورة النمطية المرسومة عن المرأة العربية والتي ما زالت باقية في أذهان البعض في الغرب الأوروبي عانت منها السيدة كثيرا (… لأنه على أي حال كانت تذكر القصص الأكثر سخفا عن المرأة العربية. ومنها، أنني سمينة مثل البرميل على الرغم من أنني كنت في ذلك الوقت نحيفة، ولدي لون ووجه زنجية، وقدماي صغيرتان جدا كأقدام امرأة صينية، ونظرا لذلك لا أستطيع المشي بالطبع …حتى بلغ الأمر في النهاية أن تقوم سيدة ساذجة جدا بتحسس شعري الزنجي المزعوم بحرية غريبة! مع أنها كانت المرة الثانية فقط التي أراها فيها!)
إن الانتقال من الشرق إلى الغرب يعني الكثير من المشاهد الجديدة، والأعراف اللامنطقية من وجهة نظر العقل الشرقي، الأمر الذي يجعلك عالقا في الدهشة أكثر الأحيان. الثلج والسيرك والبخار المنبعث من أفواه الناس والحيوانات من شدة البرد، والمسرح، وأعياد الميلاد، والكثير الكثير من المشاهد التي دهشت منها السيدة سالمة وأعقبت دهشتها برأيها عن ذلك. (كانت مشاهدة الثلج لأول مرة شيئا غريبا لي، ولا أزال أذكر حتى الآن تلك اللحظة التي كنت أرى فيها ندف الثلج الأولى وهي تتساقط من السماء بتموج، …بدا لي غريبا أن يحاول نثر القطن الأبيض الخالص هناك من فوق السماء على الأرض المتسخة…في البداية لم أستطع أن أفسر المشهد،… وارتقبت وصول زوجي بعجلة حتى يفسر لي هذا اللغز الشمالي)
(تخيلي فقط أن البشر والحيوانات كلهم جميعا يبدأون في الشتاء عند درجات برودة محددة بالتدخين، كيف كان مدهشا لي عندما رأيت الأحصنة والبخار يتصاعد منها في الشارع، وأيضا من فمي، يخرج دخان كثيف، وفي إحدى الطلعات في عربة مغلقة في الشتاء رأيت من زجاج النافذة كيف كان سائق العربة يلطم كلتا ذراعيه باستمرار، وخوفا من هذا المشهد العجيب الذي ظننت فيه أن المسكين أصبح مجنونا فجأة، قررت طبعا أن أترك العربة بأسرع ما يمكن، فضحك مني زوجي كثيرا، وفي الوقت نفسه حاول تهدئتي…)
(وكنا من حين إلى لآخر نذهب إلى سيرك رنتس، حيث كانت تعجبني الخيول الرائعة. …ولكن كان الظهور العجيب للنساء أقل إعجابا لي، إذ يظهرن بملابس قصيرة جدا، فما يسميه الناس هنا بقطع الملابس كان في الحقيقة بالكاد يحمل الاسم!)
(وبعد وقت قليل توجب علي أيضا أن أزور مسرحا. مسرح؟! سألت زوجي ما معنى المسرح؟ فأجابني بأن المسرح هو بيت كبير تعرض فيه مختلف التمثيليات، واليوم مثلا سيعرض شيء يذكرك بوطنك، مسرحية «المرأة الإفريقية» … كل شيء بدا لي جديدا وغريبا وبعيدا عن الواقع، ولم أجد تفهما للأمر برمته عندما سألني زوجي إن كانت المسرحية قد أعجبتني، لأجيبه فقط بـ«لا» فرددت عليه سائلة إن كان الممثلون أيضا مجانين، «لا، أبدا» رد علي ضاحكا…)
(دهشت عندما علمت أنه يحتفل بمولد المسيح ولكن دون التفكير مع ذلك، على الأقل في الصلاة. هل يمكنك أن تتصوري ذلك؟!)
ولا يخلو الأمر من استغراب زوجها من تصرفاتها وأسئلتها في بعض الأحيان من منطلق شرقيتها، تقول في معرض وصف عيد الميلاد: (في الصباح التالي لم يكن استغراب زوجي قليلا حين رآني نازلة من غرفة النوم على الدرج في الساعة العاشرة صباحا وأنا رافلة في حلة كاملة، فواجهني بهذا الكلام: «يا إلهي! بيبي ماذا هناك وإلى تودين الذهاب؟!»، دلفت نازلة بكل هدوء، أجر ذيل الفستان الطويل، ثم سألته إن لم يكن هو بنفسه من قال لي إن اليوم وغدا هما يوما عيد! ـ «نعم بيبي مثل هذا يفعل لديكم ولكن الأمر هنا مختلف»)
ومن محاسن الصدف على قلتلها في حياة سالمة بعد زواجها (ومن المصادفة أن وصلت إلينا قبل أربعة عشر يوما من موعد الحفلة سلحفاة ضخمة مباشرة من زنجبار، في سفينة شراعية، وكانت توضع في حوض الاستحمام مع أننا كنا نستعمله مرات عدة في الأسبوع… وكنت أجلس ساعات مع السلحفاة في الحمام وأفكاري في هذه اللحظة تبعد مئات الأميال عن المكان الذي رمانا القدر إليه أنا والسلحفاة… تملكت النظرات الحانية قلبي عندما كنت أرى السلحفاة جالسة في الماء هادئة لا تحرك ساكنا، وسرح بي الخيال أن تكون جليستي الخرساء قد قرأت أفكاري ومشاعري، ومنذ أن كانت بيننا أحسست بشعور أقل بالوحدة وكنت حزينة كثيرا عندما كان يجب أن تموت حتما، فلحمها سيقدم بالتأكيد حساء يسمى «حساء السلحفاة»… من يصف لي شعوري عندما سألني الخادم: «سيدتي! حساء البوليون أم حساء السلحفاة؟ كان ذلك قاسيا جدا، كيف أملك قلبا يجعلني أستمتع بلحم جليستي الخرساء؟!)
لم تدرِ السيدة سالمة وهي تودع سلحفاتها (جليستها الخرساء) كما وصفتها أن هناك وداعا ينتظرها سيقصيها إلى حيث الألم والحزن وفقدان النصير. تروي السيدة سالمة في رسائلها تفاصيل الفاجعة التي مرت بها. من بداية خروج زوجها من البيت مرورا بتفاصيل وجوده في المشفى وأيامه الأخيرة وهو يصارع الألم وصولا إلى الحضن الأخير للنعش الذي ضم جثة زوجها. وفي معرض ذلك تقول: (…حيث كنت في الفراش من أثر حمى ألمت بي، وكان يجب علي باستمرار أن أضع كمادات ثلج على رأسي حتى أقاوم الحرارة التي اعترتني نتيجة فطاط طفلتي… أراد زوجي زيارة أبيه المريض في شقته الصيفية، وللوصول إلى هناك كان يجب على المرء أن يستعمل عربة القطارات …وعندما استيقظت كان كل شيء مظلما، …حتى الساعة التاسعة ليلا كان كل شيء هادئا لأنني في هذا الوقت كنت أتوقع رجوع زوجي، بدأ يساورني بعض القلق …الساعة عند منتصف الليل وزوجي حتى الآن لم يعد…أخيرا طرق أحد جرس المنزل بلطف… مضى تقريبا خمس دقائق على ذلك وكانت بالنسبة لي طويلة جدا،…بدأ قلق لا يوصف يساورني مرة أخرى، وفجأة قفزت من سريري، وأنا بقميص النوم ومشيت إلى الرواق… وبدأت أنادي زوجي بصوت مرتفع من الدرابزين عله يسمعني… وإذا بي أجد نفسي ممسكة بالخادمة التي هبت إلي مسرعة وهي تصعد السلم … وكان يبدو عليها الاضطراب جدا… وإذا بأحدهم يقول لي مواسيا: «سيدتي، زوجك لا يزال حيا ولكنه مريض جدا»
قضت سالمة أتعس لحظات حياتها وهي غارقة في حزنها بجوار زوجها والذي كان من حولها يواسيها فيه وهو لا يزال يتنفس (تمكنت من رؤية ما لم أستطع رؤيته في الليلة الماضية، كان هناك جرح كبير يغطي طول جبهته، والأنف كان متضررا، وعند أسفل الرأس كان هناك جرح أكبر وأخطر من الذي على الجبهة، وكانت إحدى أذنيه مفقودة تمام، أما الجرح القاتل فكان في صدره الذي كان مع الذراع في حالة تهشم كامل وكانت ساقه أيضا قد تضررت ضررا جسيما! …)
وتختم فصل تحت اسم «بين الأمل واليأس» بقولها: (في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء أراح الله زوجي المسكين من عذاباته). وبهذا انتهت حياة زوجها.
وفي ختام مشهد الوداع: (عندما انتهت مراسم التشيع ورأيت كيف تأهب الناس ليلقوا كل ما لدي في القبر، استولت علي أمنية واحدة، وهي أن أكون من تلك الطائفة التي تحكم على الزوجات بالحرق في كومة الحطب، حتى تلحق مباشرة بالزوج! … احتضنت النعش وجاهد الناس بمشقة لنزعي منه. أو ليس قد ضم هذا النعش كل ما أملكه؟!…)
كل شيء كان يثير فيها الوجع، فهي الآن وحيدة بلا وطن، بلا أهل، بلا سند، في مجتمع لا شفقة ولا رحمة فيه، ومع أطفال ثلاثة لا يتجاوز عمر أكبرهم عن سنتين ونصف. ظلت سالمة هائمة في حزنها، مُرعبة من كل شيء، وما أكثر ما جمعت أطفالها في الغرفة حولها وأغلقت عليهم الباب، كانت تجلس معهم لساعات طويلة، كاتمة كل ذلك الخوف بداخلها عن الآخرين. لكن للحب قوة خارقة تصنع المعجزات، وليس كحب الأم حب. لقد قاومت السيدة سالمة بكل قوتها، وتكبدت المشقة وتحملت الجوع والألم، وضحت بكل ما تملك. فكانت لأطفالها الأب والأم، والمعلم والطبيب، والقريب والبعيد.
لقد تنقلت سالمة في ربوع ألمانيا، من مدينة إلى أخرى، وقد يسأل السائل ما الدافع لكل هذا الترحال، إنه العوز المادي، نعم …ابنة سلطان عمان وزنجبار وزوجة التاجر الألماني وصل بها الحال إلى بيع مجوهراتها، وأن تعمل كمعلمة للغة العربية، وأن تخيط نعلها في جنح الليل والناس نيام. لقد حملت فصول ما بعد الفاجعة (موت زوجها) الكثير من المعاناة والألم، إذ كانت حياتها بعد ذلك كمركب في وجه عاصفة وأمواج متلاطمة تحيط به، والغرق يحدق به في كل لحظة. (كان التفكير في أنه يتوجب علي أن أواصل العيش في الظروف الأوروبية المعقدة جدا وتذكر فقدي الذي لا يعوض، يسلبني ما بقي لي من رمق في الحياة. وقبل كل شيء كان الشعور المؤرق بالوحشة يحكم قلبي دائما).
(مثلما يقال في هذه البلاد قلما تأتي مصيبة وحدها، كان هذا يصدق أيضا على حالتي) لقد تعرضت السيدة سالمة لخيانة خسرت من ورائها الكثير من أموال زوجها، مما جعلها تعيد النظر في استمرارها في هامبورج مدينة الغلاء، ولهذا انتقلت من هامبورج إلى دريسدن، وقبل مغادرتها لهامبورج حدث ما أدخل فرحا عابرا إلى قلبها المنكسر (…وفعلا بعد أربعة عشر يوما تقريبا من مصادفتهم في الشارع كنت أجلس وحيدة في غرفتي أتذكر الماضي بحزن، وأفكر في المستقبل بتردد؛ إذ دخلت علي الخادمة وأبلغتني أن عشرين من الرجال السود تقريبا يودون رؤيتي، عرفت دون مشقة من هم زواري…)، إذن فقد زارها بحارة من زنجبار. تفاصيل ذلك اللقاء وكيف عثر أولئك البحارة على مكانها والأيام التي قضوها في بيتها مع أطفالها، أفردت له السيدة سالمة فصلا بعنوان (زيارة من زنجبار) (وكان لقاؤنا مؤثرا جدا إلى حد أن الخادمتين الألمانيتين الجالستين على الباب أخذتا تبكيان بصوت عال دون أن تعرفا أي كلمة من كل الكلام الذي نتحادث به…)
في دريسدن حيث محطات جديدة تنتظر السيدة سالمة، والعوز المادي يزداد يوما بعد يوم (وحتى حصالة الأطفال كان يجب عليها أن تضحي بما فيها من نقود)، والآن لن يكون لدى السيدة سالمة سوى بيع مجوهراتها (ربما ما زلت تذكرين المشبك الذهبي الذي صنعته لي على نموذج سلاح البحرية الانجليزي من الذهب الخالص، كنت أريد بيع هذا المشبك، فذهبت لأغلى بائع مجوهرات معروف وطلبت منه أن يقدر ثمنه، راق لبائع المجوهرات أن ينظر إليّ بشفقة، فقد اعتبرني سفيهة ومعتوهة، ومن دون أن ينظر إلى المشبك عن قرب أرجعه إليّ وقال لي بلد زائد: «سيدتي نحن نتعامل مع الذهب والفضة» …) وتكمل السيدة سالمة قصتها مع التاجر وكيف أجبرته على وضع المشبك في محك الذهب لإثبات صدقها وأن المشبك من عيار ذهب 18، وقصص أخرى كثيرة تسجلها السيدة سالمة في مواجهة ما آلت إليها من العوز المادي.
كانت حياة السيدة سالمة رمادية، لا شيء يمكن أن يخفف عنها أوجاعها التي تزداد لحظة بعد لحظة، ولكن الحياة وإن قست فلا يخلو الأمر من هدايا ربانية بين الحين والآخر، وهو فعلا ما حدث مع السيدة سالمة بعد أن التقت بصديقة حنون والتي كانت عونا لها في وحشتها «البارونة سوندسو» (آه كم مرة سقت إليها قلبي المثقل بالأحزان وقد كنت مطمئنة إلى تفهمها ومشاركتها في كل حال، كم مرة آه، كم مرة عدت إلى البيت من عندها مواساة قوية، لأتمكن من مواصلة طريق حياتي المملوء مشقة). كذلك تعرفت السيدة سالمة في رحلة إلى سويسرا الساكسونية على بروفيسور كان له أثر جميل في حياتها، خصوصا من الناحية العلمية، إذ تعلمت على يديه أشياء كثيرة (اقترح علي البروفيسور اقتراحا أسعدني كثيرا، وقبلته في الحال، وهو أن أعطيه دروسا في اللغة العربية على أن يعطيني في المقابل ساعات في الدروس العلمية…)
ومرة أخرى تفكر السيدة سالمة في الانتقال إلى مكان أرخص لتكون مسارا لشتات وجهتها هذه المرة، هناك حيث ستبدأ مرحلة جديدة في حياتها وحياة أطفالها؛ إذ سيبدأ أولادها في ارتياد المدرسة (احتضنت أطفالي بحرارة عندما ذهبوا في صباح اليوم الأول إلى المدرسة ، وبدا لي الأمر وكأنهم أوشكو على القيام برحلة حول العالم)
ظلت سالمة عالقة في همومها، وكان تعليم أطفالها هو الأهم بالنسبة لها، فهي كثيرا ما تؤكد في رسائلها أن العلم هو أساس الحياة الكريمة في المجتمع الألماني ومن لم يحظَ به لأي عذر ما فلن يجد من المجتمع سوى الصد والمهانة. في تلك الأثناء كان الشتاء في ألمانيا، وهو وقت خصب لانتشار الأوبئة وقد أصيب سعيد بالدفتيريا الخبيثة ولولا رحمة الله لكان في عداد الموتى كما كان يتنبأ الطبيب (وبعد ساعة واحدة بعدما آيسني الطبيب من كل أمل، خرج فجأة تيار شديد من الدم من فم الطفل الذي كان متصلبا ومستلقيا على فراش، فجلب له هذا التقيؤ النجاة.)
وكذلك الحال مع الطفلتين فما إن حل الربيع حتى أصيبتا بالحمى القرمزية (مرت عليّ أيام من المعاناة والمكابدة لا يمكن أن تتخيليها، لن تصدقي إذا قلت لك إنه كان يجب علي أن أظل ستة أسابيع كاملة مع طفلتين مريضتين ومن دون أي مساعدة، فقد كان يجب علي أن أقوم بنفسي بكل أعمال البيت، لأنني لم أجد خادمة؛ فالكل كان خائفا من العدوى… وصارحتني خياطة عجوز كانت تأتي إلينا لبضع ساعات ومن وقت إلى آخر لتساعدني في أمور المطبخ وتوفير الأشياء، فقالت لي في أحد الأيام إنها تأسف جدا؛ فلن تتمكن في الأيام القادمة من المجيء لمساعدتي؛ وذلك لأنها تخشى أن تفقد زبائنها الآخرين!…)
وللمرة الثالثة تتجه السيدة وأطفالها إلى العاصمة الألمانية وهذه المرة من أجل العمل؛ إذ ستبدأ السيدة سالمة في تدريس العربية (للأسف لم أجد إقبالا كبيرا على دراسة العربية؛ لأنه على الأرجح في ذلك الوقت لم يكن الشرق في ألمانيا موضة. ولاحقا قدمت أيضا دروسا في اللغة السواحلية والتي كانت أسهل بكثير على الأوروبيين، وكان الغالب في موضوعات تدريسي لطلابي عن كل شيء ممكن تقريبا…) في فصل بعنوان (في عاصمة الإمبراطورية) تتطرق السيدة سالمة للموضوعات التي كانت تتحدث فيها مع طلابها، كما تذكر موقفا لزوجين يهوديين، وفي فصل سابق تفكر بصوت مسموع بشأن العمل وقرارها فيه.
كثيرة هي القرارات التي كان يجب عليها أن تتخذها عقلا لا عاطفة. فبعد صراع مرير قررت أن تبعث ابنها للمدرسة العسكرية ببنسبيرج (جلسنا في هذا المشوار القصير صامتين فكلانا كان يشعر بمعنى اللحظات القادمة، كان لدينا مسافة لا بأس بها لنمشيها على الأقدام، حتى نصل إلى هدفنا، وعند كل خطوة كان قلبي يتصدع من القلق الداخلي الذي لا يوصف، حتى أوشكت أن أرجع بالولد…) ظل قلب السيدة سالمة ينزف وجعا على بعد طفلها، ولم يفارقها شعور «أنها قدمته قربانا على مذبح الوفاء لزوجها»
تدهورت حالة السيدة سالمة كثيرا طوال تلك السنين، والتفاصيل كثيرة حول ذلك كما أوردتها في الرسائل. عاشت سالمة حياتها من أجل أطفالها، فضلت العزلة عن العالم الخارجي (وبهدوء وانعزال عشت تماما من أجل الأولاد فقط، ومن دونهم لم يكن لي أن أحس بالراحة، معا، فالناس كانوا يعلمون أنني لا أحب أن أخرج من دونهم. وكان خروجهم من البيت وحدهم يبعث في قلقا كبيرا؛ لأن عبور الشوارع المزدحمة كان يشكل لي دائما مصدر قلقل مستمر)
إن رسائل إلى الوطن هو وثيقة كتبت الحياة ليوميات امرأة شرقية عاشت في مجتمع غربي، حيث لا شيء يشبهها في ذاك المكان، الفقد عنوان كبير تحته الكثير من التفاصيل التي عانتها السيدة سالمة والتي سجلتها بقلب أم رؤوم. يبقى القول إن امرأة كالسيدة سالمة منعطف إنساني خارج عن القوانين الحياتية المعتادة والخلود حق لها.
* رسائل إلى الوطن كتاب جديد للسيدة سالمة بنت سعيد يترجم لأول مرة إلى اللغة العربية.. وترجمه من الألمانية زاهر الهنائي.
كاتبة عمانية مقيمة في ألمانيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق